هي المرة الأولي التي يتاح لي الحديث مع فيلسوف بقامته... والتعرف علي رؤاه وأفكاره وتساؤلاته... علي امتداد عام ونصف العام من اللقاءات المتقطعة التي بدأت بلقاءات مباشرة في مدينة "جرينوبل" الفرنسية، و "باريس" ، وحتي اللقاءات الأخيرة في القاهرة والاسكندرية، وقبلها مجموعة من المراسلات المتبادلة بيني وبين جيل ليبوفتسكي... المفكر والفيلسوف الفرنسي الذي يعد أحد أهم المفكرين الفرنسيين المعاصرين . ولد جيل في "ميلوه" وتعلم وعاش بداياته في باريس ثم انتقل إلي جرينوبل ليستقر ويعمل بها ، بدأ معلماً للفلسفة في جامعة جرينوبل ودارساً وباحثاً حتي بلغ التاسعة والثلاثين ليبدأ رحلته مع الكتب ومع القراء. يري متابعو أعماله أنها جاءت نتاج دراسة وتدريس الفلسفة في أثناء السنوات السابقة ومن ثم مثلت نتاجاً مدوياً وكأنها الثمرة التي نضجت علي مهل حتي تفجرت فشهد لها كل من تذوقها.. نشر كتابه الأول في التاسعة والثلاثين وكان بعنوان " زمن العدم" جامعاً مشاهداته وتأملاته حول ظاهرة الفردانية وعلاقتها المُفَارِقَة بالممارسة السياسية التي تعيشها المجتمعات الحديثة وبفضل هذا الكتاب عرف جيل النجاح الواسع حتي إن أصدقاء لي أكدوا أن الحديث عن كتاب " زمن العدم" كان موضة السنة بين أوساط المثقفين والقراء العاديين، بعد ذلك مضي ليبوفتسكي في مسيرته مع مؤلفاته التي بلغت أربعة عشر كتاباً آخرها كتابه عن " ظاهرة الجمال" وهو لايزال قيد الطبع في دار النشر الفرنسية الشهيرة "جاليمار" . لدي نقاده يتميز فكر ليبوفتسكي بالكثير من السمات التي تؤهله لحيازة ما يمتلكه من مكانة فكرية مرموقة، مثل قدرته علي العرض المفصل ثم التكثيف، وتناول الظاهرة من مختلف جوانبها ، ثم عرضه للتفسيرات الشائعة حولها و تحليلها لدرجة تدعو إلي التشكيك فيها، إلي جانب ولعه ودأبه علي ذكر الإحصائيات الرقمية المرتبطة بما يتناوله للوصول مع القارئ لأقرب تصور كلي ممكن لما يطرحه. لكن خصوصية ما يقدمه جيل تكمن في اهتمامه بموضوعات لا يهتم بها الفلاسفة المعاصرون : مثل ظاهرة الفردانية ، والولع بالاستهلاك في المجتمعات الحديثة، مثل المرأة وواقعها المعاش، مثل الموضة ومصيرها الزائل، وغزو مظاهر الترف ومنتجاته لحياتنا اليومية. في بداية العام الماضي كانت فرصة أول لقاء بيننا، أثناء إقامتي في مدينة آرل الفرنسية، في إطار منحة علمية بكلية المترجمين الأدبيين، كنت آنذاك أعمل علي ترجمة كتابه "المرأة الثالثة" وبحثت عن عنوانه البريدي لأنني كنت بحاجة إلي بعض التفسيرات والشروحات الخاصة بأفكاره المدرجة في الكتاب. فتلقيت الرد علي الفور ومعه موعد كان هو الأول بيننا في مدينة جرينوبل حيث إقامته. كان في انتظاري في محطة القطار ، ظل يتحدث طوال الطريق بطريقة بسيطة للغاية في موضوعات حياتية، تحدث بشغف عن مدينته التي وصفها ب"العملية جداً" حيث يعمل الجميع ولاوجود للكثير من أنواع التسلية.. قال إن مدينته تتميز بطبيعة نادرة حيث تحيط جبال الألب بالمدينة من كل الاتجاهات، ثم شرح كيف وضع المال الذي كسبه طوال حياته في شقته الجديدة التي أصبحت مسكناُ ومكتباً في آن واحد. في العادة تتكون البنايات في "جرينوبل" من ستة طوابق علي الأكثر، أما البناية التي يقطن فيها فهي مكونة من ثمانية طوابق وتحتل شقته الدور الأخير كاملا، وتطوقها شرفة من كافة الاتجاهات، تمكنه من رؤية قمم جبال الألب كما يقول! الفيلسوف الذي تحدث عن الرفاهية وأشكالها وعن الماركات العالمية التي باتت تغزو حياتنا أكثر من غيره، عاد ليؤكد: " اشتريت هذه الشقة الاستثنائية لسبب وحيد هو هذا المشهد الطبيعي الاستثنائي ، فأسعد أوقاتي حين أجلس في الشرفة أمام اللاب توب لأفكر وأكتب". في المنزل استقبلتني زوجته بينما انهمك هو في إعداد مائدة الطعام، موضحا "في فرنسا يقدر الرجل مجهود زوجته ويقاسمها إياه، ليس كما هو الحال عندكم كما أظن!" هنا شرحت له أن ذلك يعتمد علي العلاقة بين الطرفين وأن هذه العلاقة لا تخضع لنموذج واحد في مصر". يومها فاجأني بكم كبير من الأسئلة عن واقع حياتنا في مصر أكثر مما أعددته أنا من أسئلة عن كتاباته.. وأخذ يسأل بفضول حقيقي وكأنها أسئلة تتقافز في رأسه منذ فترة وبلقاء المترجمة المصرية جاءت الفرصة للإجابة عنها: سألني عن الوضع أثناء الثورة وعن الطريقة التي استقبل بها الناس في البيوت مسألة قيام الشباب بما قاموا به في اليومين الأولين، وعن العلاقة بين الرجل والمرأة في مجتمعاتنا، وبالطبع لأن موضوع الكتاب الذي ذهبت إليه من أجله يتناول واقع المرأة فكان من البديهي أن يتناول حديثنا وضع المرأة في مصر، كان يظن في البداية أن الحجاب يفرض في مصر حالياً كما هو الحال في إيران ولكنه حجاب بألوان متعددة وليس الأسود فقط، وصححت له أن انتشاره هو ظاهرة اجتماعية ولا يرجع لفرض من أي جهة كانت. واللافت أن جيل عندما زار القاهرة بعد نحو عام من لقائنا الأول بدعوة من المركز الثقافي الفرنسي بمناسبة صدور الترجمة العربية لكتابيه : "المرأة الثالثة... ديمومة الأنثوي وثورته" و" شاشة العالم " ترجمة راوية صادق، لم يتوقف شغفه ولا تساؤلاته عن وضع المرأة في المجتمعات العربية، فبعد وصوله إلي الفندق الذي أقام فيه بدأ رصد انطباعاته الأولي عن عاصمتنا المزدحمة وهو الرجل الذي اعتاد التنقل والسفر بين عواصم العالم قال لي مندهشاً : "آه... أري الكثير من الفتيات غير المحجبات.. كنت أعتقد من سماعي عن صعود التيارات الإسلامية في مصر أنني لن أقابل سوي المحجبات!!" في اليوم التالي زار جيل الأهرامات التي كما قال لي "قرأت عنها كثيراً وأعرف أن ملوك ذاك العصر استخدموا العمال لإتمام هذا البناء مقابل أجر ولم يكونوا عبيدا كما نظن، وهو مظهر جلي علي التحضر والعدل". تصور ليبوفتسكي أن الأهرامات تقع في الصحراء تماماً وأنها بعيدة عن المدينة ولكنه فوجئ بأن السيارة تسير وسط البنايات والشوارع المزدحمة بالناس، تحدث بعد ذلك عن مفارقة وجود الفندقالأرستقراطي الشهير ملاصقاً للهرم محاطا بأحياء فقيرة من كل الجوانب.. وعلق: " لابد وأن ذلك المكان يصدم سكان هذه الأحياء ويجرحهم". علي مقهي صغيرة في نزلة السمان جلسنا لشرب القهوة ثم قال لي : " سألت في المطار عن الأكلة الشعبية الأكثر شهرة في مصر وعرفت أنها الكشري.. أريد أن أتذوقها اليوم". محطتنا الثانية كانت في القلعة حيث زرنا ما بها من متاحف ومساجد أبرزها محمد علي ومسجد السلطان حسن.. ثم عدنا عن طريق حي الحلمية، أكثر ما يشغل ليبوفتسكي هو الظواهر الإنسانية المرتبطة بالمكان فلم يعلق علي التفاصيل التاريخية المتعلقة بالمزارات بقدر ما كان يتحدث عن الظواهر الإنسانية التي يراها في المزارات فعند أداء صلاة الجمعة انتظرنا داخل القلعة في المسافة الفاصلة بين المتحف الحربي ومتحف الشرطة.. نظر بتأمل للسيدات المنتظرات علي الأرصفة حولنا ثم سألني هل صلاة الجمعة لا تؤديها النساء في المساجد" ثم علق: "زي المرأة المحجبة لديكم ليس موحداً بل من الواضح أنه متفاوت ومتفاوت لأقصي الدرجات، بل في الحقيقة كل ما يفصل المرأة المحجبة عن غير المحجبة هو غطاء الرأس دون أن يقترن هذا الغطاء بمعايير محددة للزي بل حتي هذا الغطاء متفاوت في طريقة وضعه وألوانه"، ثم تابع حديثه "من الصعب فهم ما أراه.. والتفسير الوحيد في رأيي أن الكثير من النساء في مصر يضعونه كنوع من الوقاية الاجتماعية والسير مع ما يسير عليه أغلب المجتمع دون قناعة حقيقية". وهنا تذكرت ما ذكره في كتابه "المرأة الثالثة" من أن المرأة في المجتمعات الغربية يجب أن تحيد مظهرها الأنثوي كي يتم الأخذ في الاعتبار بكفاءتها المهنية وإلا لم يتم الاعتراف بمؤهلاتها العملية وذكرته بذلك، فأكده موضحاً أن ما تعانيه المرأة في مؤسسات العمل من التأطير الذكوري لدورها يضاف إلي باقي الصعوبات التي تواجهها من المجتمع بكامله وهي تمارس دورها المهني والسياسي.. سألته: في رأيك ما هو أكثر ما تبحث عنه المرأة وتصبو إليه"؟ أجابني علي الفور ودون تفكير: "التوفيق بين دورها الطبيعي كأم وزوجة، وطموحها العلمي والمهني فهي لا يمكن أن تتوازن نفسياً دون تلبية النداء الغريزي فيها كأنثي وكأم وفي الوقت ذاته هي غير مستعدة عن التخلي عن امتيازات حققتها لها مسيرتها العملية من استقلالية مالية وتحقيق لهويتها". انتقلنا بعد ذلك إلي وسط البلد لتناول الكشري، بعد تذوق أول معلقة صاح ليبوفتسكي "إذا لم تتأذ معدتي اليوم.. فكل يوم نأكل كشري"، تناول طبقه كاملا ومن بعده الأرز باللبن، كان يشعر برضا غير معقول بسبب هذه الوجبة العبقرية علي حد تعبيره! لكنه طرح عليّ سؤالاً ترددت في الإجابه عليه: لماذا دفعنا الحساب قبل أن يأتوا لنا بالأكل؟ في اليوم التالي تقابلنا لزيارة المتحف المصري أكثر ما استرعي انتباهه كانت مراحل التحنيط وعبقرية الصورة التي رأي عليها المومياوات.. وفي الجناح المخصص لتوت عنخ آمون أو "الملك الطفل" ظل مبهوتاً أمام تفاصيل الترف المتمثلة في الأغراض التي عثر عليها في مقبرته لتصاحبه في الحياة الأخري وتذكر كتابه "الترف الخالد" وقال "أتدرين أنني ذكرت تلك التفاصيل في كتابي متحدثاً عن الحضارة الفرعونية وعن طقوس تجميع ووضع أغراض الملك معه في رحلته إلي الخلود، ليجد كل ما يلزمه عند بعثه كأحد أهم مظاهر الترف الخالد في الحضارات والأزمنه المختلفة؟". في الغداء أضاف شربة العدس إلي الأطباق التي يتمني تناولها في كل وجبة، مبديا الإعجاب بطريقة تقديم الأكل في مصر، والتي تختلف تماماً عن الطريقة الفرنسية حيث تقدم الأطباق تباعاً، بينما في مصر نفرد الأطباق لنملأ السفرة مرة واحدة ونظل نأكل من الأطباق جميعاً بالتناوب. خلال تجوالنا في شوارع القاهرةوالإسكندرية لاحظ لافتات الدعاية الانتخابية، وكانت من بينها واحدة كبيرة ممزقة فسألني لمن؟ فقلت له إنها لمرشح من جماعة الإخوان المسلمي ن فقال: "من الواضح أن سيطرة الإخوان المسلمين تتزايد في الأحياء الفقيرة وتقل في الأحياء الأرستقراطية والراقية، وبالمناسبة إن التفاوت غير معقول بين الأحياء الفقيرة والغنية وهو تفاوت حقيقي وليس انتقالاً تدريجياً أو متقارب بين الطبقات الاجتماعية". أكملنا الحديث حول باقي المرشحين والانتخابات وسألته بالمناسبة: "كيف تري فوز هولاند بانتخابات الرئاسة الفرنسية؟" فأجابني: "تصويت الفرنسيين لهولاند هو تصويت رفض أكثر منه تصويت قبول.. بمعني أن الفرنسيين لكثرة ما كرهوا ساركوزي ورفضوا سياسته ذهبوا في الاتجاه المضاد فصوتوا لهولاند.. فأنت تعلمين أن ساركوزي من اليمين وهولاند يساري.. وفي اعتقادي أن هذا السلوك من الوارد أن يتكرر عندكم، وهو أمر طبيعي بالمناسبة في السلوك الانتخابي للشعوب، حين تسيطر فئة علي الحياة السياسية ويضيق بها الناس يذهبون لأبعد التيارات الأخري عنها ليدعموه". في ثالث أيامه بمصر كانت الرحلة إلي الإسكندرية لعقد أول المؤتمرات بالمركز الثقافي الفرنسي. زار ليبوفتسكي المكتبة وبالمناسبة هي أكثر ما بهر به الفيلسوف الفرنسي علي أرض مصر وتفسير ذلك في ظني طبيعي حيث أنه مشغول بالحداثة أكثر من أي شيء ومكتبة الإسكندرية هي أثر عريق تم تحديثه علي أكثر الطرازات المعمارية تناغماً وتماشياً مع طابعها الأصلي ومع ظروف المكان، يقول ليبوفتسكي: "من الرائع طرح منافسة بين مؤسسات التصميم العالمية للوصول إلي هذا التصميم البديع فهو تصميم هادئ وغير مرتفع كي يستفيد من كونه مقابلاً للبحر فلم يتم اختيار مبني مرتفع ليصدم البحر المتوسط أمامه، بل بناء غير مرتفع وينحدر باتجاه البحر، وكأنه يمد يده إليه لتكتمل به الصورة، فيكون المشهد هو اللقاء بين الثقافة والطبيعة أجمل شيئين يمكن أن ينعم بهما الإنسان، فالثقافة هي ما تثري روح الإنسان وتسمو بها والطبيعة هي ما تسبغ عليها السكينة والترف البسيط. حين كنا ننتقل بين المقاهي في القاهرةوالإسكندرية كان ليبوفتسكي يفضل الجلوس في مكان يكسوه الظل عن الجلوس في الجزء المكيف.. وعن الظل أسهب الرجل في وصف فتنته به فهو يري أن حالة الجلوس في الظل هي أمتع الحالات بالنسبة للإنسان، فهي ليست بقسوة الحر وليست بهجومية الهواء المكيف اصطناعياً، وأضاف أنه إذا جلس يعمل في الظل أمام جهازه فيمكن أن ينسي نفسه لساعات طويلة دون أن يشعر برغبة في تغيير الحالة أو المكان، إنه الترف البسيط أو البدائي كما سمّاه هو. في المساء كان أول لقاءاته مع الجمهور المصري، والذي دائماً ما يحيل إشكالية المرأة التي طرحها ليبوفتسكي في كتابه إلا جسدها وتغطيته من عدمه وخاصة أمام المد الذي يشهده المجتمع للتيارات الإسلام السياسي.. وكان تعليق المفكر يتمحور حول نظري أن الدين لا يقف ضد حرية الإنسان رجلاً كان أو امرأة، ولكنه تأويل الدين هو ما يمكن أن يقودنا إلي هذه المنطقة الضيقة من التعامل مع المرأة. وكان لليبوفتسكي ملحوظتان طرحهما علي في نهاية رحلته : أولهما أنه لم يسمع ضحكة واحدة طوال رحلته من مصري وأن الوجوه دائماً جادة لا تكسوها ابتسامة، بينما يشتهر المصريون بالنكتة، والملحوظة الثانية هو الفوضي السمعية التي تجعل من المواطن المصري ضحية لصخب لا ينتهي.