كان تدريس الفلسفة بالثانوي، منذ أن كان تدريسا نبراسا لشعلة الفلسفة بالمغرب، تلخيصا واقتباسا وترجمة وتأليفا. وكان جل الأساتذة في الجامعة فيما بعد، حتي لا أقول كل الأساتذة، من الثانوي.. وما زال التعليم، حتي الابتدائي، يضخ دماء فلسفية جديدة في المشهد الثقافي عامة والفلسفي علي الخصوص. حتي وإن رأي البعض في ذلك مسا ببعض الأعراف الأكاديمية والجامعية يعود علي البحث والتحصيل ببعض الوهن بله السلبيات، فإن المؤسسين الحقيقيين للدرس الفلسفي ثم الكتابة الفلسفية الترجمية والإبداعية كانوا وما يزالون من تلك الروافد. وعليه الحصيلة من هذا المستوي والمنطلق لا يستهان بها: هناك كمية كبيرة من المؤلفات والأبحاث والمداخلات والمساهمات عضدها تدريس الفلسفة وديداكتيك الفلسفة بالثانوي. ومنه أيضا ضجت المراكز والمدارس العليا وماسترات الفلسفة والدوكتوراه بخميرة من خيرة الباحثين والمفكرين الذين حازوا جوائز مكرسة علي الصعيد العربي والعالمي. وكان عدم انغلاق المغرب في لغتيه الأمازيغية والعربية وانفتاحه علي اللغات العالمية كالفرنسية والإنجليزية والألمانية سببا مائزا ومميزا في الاتصال المباشر بفلسفات هذه اللغات وبالفلسفة اليونانية واللاتينية بشكل غير مباشر. نعرف الآن بعض الخلل الإيديولوجي والتيولوجي علي مستوي تدريس اللغات والتدريس بها للمواد العلمية والعلوم الانسانية بما فيها الفلسفة ولكن نتمني أن نخوض إصلاحا تعليميا يصلح الخلل ويرمي بالانغلاق إلي مزبلة التاريخ. أبطال وأصحاب المشهد الفلسفي بالمغرب الآن يعترفون دون هوادة بجدية المعلمين الذين درسوهم الفلسفة. كانت جديتهم هي الهالة العجيبة التي تحيط بصورهم ووجوههم وتحفظ وقارهم من كل شائبة وتؤكد دماثتهم وإيثارهم، والذين ارتموا علي ميدان الفلسفة خطئا كانت هذه الأخلاق والقيم تعوزهم مهما صنعوا وتزلفوا وسرعان ما غيروا مهنتهم واهتمامهم وضاربوا في مجال السيارات المستعملة أوالعقار ونجحوا في ذلك. هذه الأخلاق بما هي أخلاق المهنة وأخلاق العمل والكد والجد والمثابرة والبحث جعلت المغرب ينفتح منذ الخمسينات علي كل التيارات والاتجاهات الفلسفية والسوسيولوجية والأنتربولوجية والنفسية السائدة في أروبا عامة.. ينهل منها المعلومات والأسس والمفاهيم والمناهج بغربال النقد والمتحيص والتدقيق، ورغم انزلاق وانفلات وتسلل بعض الفلسفات الإيديولوجية كالماركسية وتلويناتها والآن بعض العقائد اللاهوتية كالإسلاموية ودواعشها فإن الدوغما ( العقيدة المنغلقة ) ولا الدوكسا ( باديءالرأي وغالب الظن ) نالا من التفكير الفلسفي المغربي ولا من الدرس الفلسفي الأكاديمي قيد أنملة.. ولقد استطاعت هذه اليقظة الفلسفية بكل عناصرها وسماتها السالفة الذكر أن تنتج اتجاهات ومدارس فلسفية. أولا في الترجمة حيث هناك اهتمام عارم بها كإشكالية وكممارسة سواء في إحياء التراث تحقيقا وتبويبا وتصنيفا أوفي ترجمة الكلاسيكيات أوما يواكب العصر من اهتمامات، وهناك مدرستان في مقاربة الفلسفة الإسلامية مدرسة فاس ( النصية ) ومدرسة الرباط ( التأولية )، وهناك ايضا علي المستوي الأكاديمي جل الاتجاهات الفلسفية كالتفكيكية والهيرمينوطيقا وفلسفة الأديان والسيميائيات...طبعا كل هذه المدارس والتأثيرات منتجة ومبدعة إما تحت يافطة الجامعة أوالمدارس العليا أوبمبادرات فردية أحيانا أخري... ومع ذلك حين نطل علي هذا التراكم خارج التدريس والتلقين والتحصيل والمناظرات والمحاضرات.. نلاحظ مع الأسف بأننا لازلنا في حاجة إلي المزيد من المثابرة والمكابدة خاصة في " إشكالية الإبداع الفلسفي ". وفي اعتقادي لا يجوز تأطير هذه الإشكالية ولا التنظير لها بقدر ما يجب الخوض فيها رأسا وممارستها والانغمار فيها. فالاقتراحات والمحاولات السابقة في هذا السياق بقيت أقانيم لا فعالية فيها ولا دينامية: فلا الجرأة الفلسفية ولا الديموقراطية ولا التكوثر ولا الحداثة وما بعدها قادرات علي تحريك سواكن الابداع لأن هذا الأخير لا يسير علي هدي ولا علي مثال ولا علي منوال إنه هوالهدي والمثال والمناولة... ما الإبداع الفلسفي..؟ ومن هوالفيلسوف المبدع؟ عادة يخشي الفلاسفة نعتهم بالفلاسفة. هل هوتواضع؟ أم خجل؟ أم قناع؟ كان فوكو لا يمل من القول " أنا لست فيلسوفا. وإذا كانت الحقيقة هي مبتغاي فأنا رغم كل شيء فيلسوف ". هذا التردد والتواضع بدأ مع بدايات التفلسف لما قال فيثاغورس: " أنا لست صوفوص (حكيم) إنما أنا فيلو/ صوفوص (محب أوصديق للحكمة). وتباعدت المسافة كما أرادها فيثاغورس بين الآلهة ( الحكماء / الفلاسفة ) وبين المحبين (الأصدقاء / المريدين ) تواضعا وتقلصت فيما بعد حتي أصبح الفيلسوف حكيما.. وضاعت المحبة، محبة المفهوم كالمثال والخير والمحرك الأول أوتلاشت.. وأضحي الفيلسوف سفسطائيا يخطب ويحاجج ويرافع وينخرط في الشأن العمومي وبات الإنسان" مقياس ما يوجد وما لا يوجد" في الوجود. من هوالفيلسوف؟ هل هو ذلك الذي يعيد اجترار قول الفلاسفة؟ أم ذلك الذي يبحث عن المفهوم ويبدعه؟ أم هوالذي يقتحم الفضاءات ويقود الجماهير؟ في الأندلس انحاز الفيلسوف أبوالوليد بن رشد إلي مدرسة المفهوم " الوجود من حيث هووجود" واختار المشائية فلسفة: " السماع الطبيعي " و" فصل المقال.." وتحول السفسطائي إلي عالم للكلام ( الحسن البصري وأبي الحسن الأشعري ) بجداله وسفسطته في صفات الله وعدله.. بعدها غاب الفيلسوف وأحرقت كتبه ( محنة العقل ) إلي أن ظهر في المغرب الحديث الفيلسوف محمد عزيز الحبابي. وكان لا بد من رتق قناع الفيلسوف بقناعات جديدة وجمة. لا مفر من تمثيل دور الفيلسوف والتلبس بأدواره. يشكل هذا الرتق لا الترميق وهذا التمثيل لا التقليد كل المتن الفلسفي المغربي.. ما هي طبيعة هذا المتن؟ هل هوتاريخي أم تأويلي؟ إبداعي أم اتباعي؟ تشابكت في التاريخي أسباب تأريخ الفلسفة وتدريسها وتعليمها. وكان التفكير في تاريخ الفلسفة هوالفلسفة، كما كانت الخلاصات ومشاريع القراءات والأطاريح التأريخية هي هي إلي حدود التاريخانية وتآلف التأويلي بالأكاديمي وبات التحقيق في التراث فلسفة سمي تارة بالتأويلية والتداولية وأحيانا بالهرمنوطيقا.. ولما رجع الديني أو تراجعنا نحو الدين تفكيرا سمي " فلسفة الدين " وظهر حذاءها جنس " علم الكلام " مرة أخري.. هكذا في كل هذه الحالات كان قناع الفيلسوف يظهر في شكل المؤرخ تارة والمؤول للفلسفة والعلوم الإنسانية تارة أخري والمدرس للفلسفة في الكثير من الأحيان. نحن في حاجة ماسة إلي الفيلسوف المبدع. صاحب المفهوم. كان يحلو لجيل دولوز أن يميز بين المهن وفق الصداقة والمحبة..هكذا كان النجار صديق الخشب والخزفي صديق الطين والفيلسوف صديق المفهوم..من هنا تعريفه للفلسفة باعتبارها " إبداعا للمفاهيم ". ذلك أن الفلاسفة الكبار يعرفون بما يبدعون من مفاهيم: أفلاطون والخير الأسمي، أرسطووالهيولي، ديكارت والكوجيطو، هوسرل والإبوخي، هايدجر والدازاين، نيتشه والعود الأبدي، ديريدا والاخت(أ)ف، دولوز/ غاتاري والجذمور وهلمجرا... ولا يتوقف إبداع هؤلاء الفلاسفة عند حد المفهوم الواحد بل لكل واحد منهم العديد من المفاهيم والتصورات والتمثلات الخاصة به المميزة له. نحت المفهوم يتجاوز كفاية التفكير ذلك أن الفيلسوف ليس مفكرا فقط.. كل من يكتب فهو مفكر لأن خاصية الإنسان التفكير " أنا أفكر إذن أنا موجود " كما قال ديكارت و" أنا أفكر..حتي ولوكنت مجنونا " كما أضاف فوكو..فالجنون تفكير مغاير. ( فوكو، أرطو، نيتشه) كان تفكيرهم مختلفا لكن ليس التفكير ولا المختلف والمغاير هوالذي جعل منهم فلاسفة. بل قدرتهم علي إبداع المفاهيم انطلاقا من تفكيرهم وتفردهم. وتلك المفاهيم ما هي في حقيقة الأمر سوي نوافد فكرية وتمثلات تصورية لآفاق إنسانية جديدة مبتكرة ومكثفة، تستبدل اللغة العادية ( العامية ) أوالمثقفة ( الفصحي ) بلغة الفلسفة بأسئلتها وإشكالاتها وإستشكالاتها. لم يفكر الفلاسفة إلا في الأمور العادية واليومية حتي لا نقول المبتذلة..هكذا لم تخرج فلسفة نيتشه من موضوع الجسد وميولاته والحياة وعيشها والحواس والإرادة. ولم يفكر فوكو إلا في السلطة في السجون في اللغة في المصحات النفسية والإعلام.. كما لم يفكر ليفيناس سوي في الوجه والغيرية والهناك والأثر..... واقتطعوا منها إبداعا مفاهيميا مائزا. للأسف ما زلنا في المغرب والعالم العربي نفكر من خلال الفلاسفة لا الفلسفة ونكتب تاريخ الفلسفة أوتاريخ العلوم، وما زلنا نتفلسف ضمن فلسفة الفيلسوف أي ما زلنا نرتدي أقنعة الفلاسفة.. أما حان الوقت لإزاحة القناع قليلا؟..ويظهر الفيلسوف كثيرا.