السيسي يوجه بالاهتمام بالشباب ونشر ثقافة الرياضة في مختلف اللعبات    وزير الإسكان يبحث مع بعثة البنك الدولي التعاون في الإدارة المتكاملة للأراضي والمدن الذكية    التحريات تكشف سبب مقتل مهندس الكيمياء النووية بالإسكندرية    عمرو محمود ياسين يطالب بمواجهة فوضى السوشيال ميديا: المجتمع تحول إلى جلسة نميمة كبرى وخوض في الأعراض    استرداد 22 فدان خلال حملات إزالة التعديات في أسيوط    نانسي سلام: الاستدامة والتصدير طريق صناعة الملابس الجاهزة للمنافسة عالميا    فريق برازيلي يسعى لخطف نيمار من سانتوس    «المصدر» تنشر قانون الإجراءات الجنائية الجديد بعد تصديق الرئيس    رئيس جامعة المنصورة يستعرض تجربتها كنموذج منتج    الإقبال الكثيف وراء نفاد تذاكر المصريين بالمتحف المصري الكبير    ساعية البريد: حين تحمل النساء هم تغيير العالم    تعزيز العلاقات الثنائية يتصدر.. بيان مشترك لوزيري خارجية مصر وتركيا    فرق من القسام والصليب الأحمر تدخل إلى حي الزيتون شرق غزة للبحث عن جثث إسرائيليين    لقاء الشرع بترامب في البيت الأبيض الأول منذ 80 عاما.. وباراك يكشف تفاصيل الاجتماع    رئيس جامعة قناة السويس يكرّم الفائزين بجائزة الأداء المتميز عن أكتوبر 2025    الأهلي يعول على محمد شريف لقيادة الهجوم أمام شبيبة القبائل    باريس سان جيرمان يحدد 130 مليون يورو لرحيل فيتينيا    الطماطم ب8 جنيهات.. أسعار الخضراوات والفاكهة بسوق العبور اليوم الخميس    البورصة المصرية تعلن بدء التداول على أسهم شركة توسع للتخصيم في سوق    قرار حكومي بإنشاء كلية البنات الأزهرية في مطروح    الغنام: إنشاء المخيم ال17 لإيواء الأسر الفلسطينية ضمن الجهود المصرية لدعم غزة    رئيس الطائفة الإنجيلية يشيد بجهود محافظ أسيوط فى تطوير مسار العائلة المقدسة    الدوسري خلال «خطبة الاستسقاء»: ما حُبس القطر من السماء إلا بسبب تقصير الناس في فعل الطاعات والعبادات    بورفؤاد تدفع ب7 سيارات كسح لمواجهة أزمة غرق الشوارع بمياه الأمطار    سقوط 5 أشخاص بتهمة التنقيب عن الآثار بالمطرية    إحالة عاطل للجنايات بتهمة سرقة المواطنين بأسلوب الخطف وحيازة سلاح أبيض بالزيتون    هزة أرضية بقوة 3.9 درجات تضرب منطقة قبرص    إسقاط الجنسية عن شخص لالتحاقه بالخدمة العسكرية بدولة أجنبية    متحدث الأوقاف: مبادرة صحح مفاهيمك دعوة لإحياء المودة والرحمة داخل الأسرة والمجتمع    المناهج المستوردة كشفت الكارثة…المنظومة التعليمية تنهار والمعلمون يأسوا من الإصلاح فى زمن الانقلاب    «مبروك لحبيبتي الغالية».. فيفي عبده تهنئ مي عز الدين بزواجها    اتحاد شركات التأمين: يثمن إتاحة الاستثمار المباشر في الذهب والمعادن النفيسة    موعد شهر رمضان 2026.. وأول أيامه فلكيًا    الوزير: مصر مستعدة للتعاون مع الهند بمجالات الموانئ والنقل البحري والمناطق اللوجستية    طاجن الكوسة بالبشاميل والدجاج| وجبة غنية تجمع النكهة الشرقية والمذاق الكريمي    الداخلية تكشف الحقيقة الكاملة لفيديو "البلطجي وسرقة الكاميرات" في الدقهلية.. القصة بدأت بخلاف على الميراث!    بشير التابعي: شكوى الزمالك ضد زيزو "شخصية".. وطاهر لا يستحق الانضمام للمنتخب    سفير المغرب بالقاهرة يكشف شرط حصول الجماهير المصرية على التأشيرة المجانية لحضول أمم إفريقيا    الكهرباء: مستمرون في التنسيق مع البيئة لتنفيذ الاستراتيجية الوطنية للطاقة والتحول نحو الطاقات المتجددة    «التحديات النفسية والاجتماعية لظاهرة التنمر في ظل الرقمنة».. ندوة بآداب بنها    وزير الخارجية ونظيره التركي يؤكدان دعمهما القوي للشعب الفلسطيني وتخفيف معاناة قطاع غزة    خبير لوائح يكشف سر لجوء اتحاد الكرة للجنة المسابقات لإصدار عقوبات السوبر    تعليم الأقصر تبحث الاستعدادات لامتحانات الفصل الدراسى الأول.. صور    زوج يقتل زوجته بعد شهرين من الزواج بكفر الشيخ    الداخلية تلاحق مروجى السموم.. مقتل مسجلين وضبط أسلحة ومخدرات بالملايين    وزير الصحة يُطلق الاستراتيجية الوطنية للأمراض النادرة    مخاطر وأضرار مشروبات الطاقة على طلبة المدارس.. استشاري تغذية توضح    دوري المحترفين، 5 مباريات اليوم في الجولة ال 12    طريقة عمل البطاطا بالكاسترد بمذاق لا يقاوم    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 13نوفمبر 2025 فى محافظة المنيا    أديل تخوض أولى تجاربها التمثيلية في "Cry to Heaven" للمخرج الشهير توم فورد    إنهاء أطول إغلاق حكومى بتاريخ أمريكا بتوقيع ترامب على قانون تمويل الحكومة    إسرائيل تضغط لرفع الحظر الألماني على صادرات الأسلحة    10 صيغ لطلب الرزق وصلاح الأحوال| فيديو    صاحب السيارة تنازل.. سعد الصغير يعلن انتهاء أزمة حادث إسماعيل الليثي (فيديو)    الولايات المتحدة تُنهي سك عملة "السنت" رسميًا بعد أكثر من قرنين من التداول    «سحابة صيف».. مدحت شلبي يعلق على تصرف زيزو مع هشام نصر    قصر صلاة الظهر مع الفجر أثناء السفر؟.. أمين الفتوى يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثلاث قصص من: فتيان في صناديق الزنك

سبق أن قدمنا علي صفحات أخبار الادب نصا طويلا من كتاب "أصوات من تشيرنوبيل "للكاتبة البيلاروسية الفائزة بجائزة نوبل 2015 سفيتلانا ألكسيفيتش في أكتوبر الماضي (العدد1160 ) واليوم نقدم نصوصا أخري من كتابيها: "أولاد الزنك "الصادر عام 1991 و"مفتون بالموت" الصادر عام 1994. في الكتاب الأول توثق الكاتبة لوقائع الحرب السوفيتية الأفغانية ( 1979- 1989 ) فنلتقي أشخاصا واقعيين اشتركوا في هذه الحرب ضباطا وجنودا وصحفيين وأطباء وممرضات وعادوا الي الوطن يروون بلسانهم فظائع الحرب، وإلي جانب ذلك نساء ثكالي تحكين ما حدث لأبنائهن أو أزواجهن، كما سنري في النصوص الثلاثة المختارة هنا.
في الكتاب الثاني: " مفتون بالموت " تقدم لنا المؤلفة اثنتي عشرة حكاية انتحارية، إذا جاز التعبير، عن أشخاص يرتكبون جريمة الانتحار بعد زوال الشيوعية، كما سنري في القصة المترجمة هنا : " حكاية الرجل الذي حلق في الهواء مثل طائر " وسنجد أن الكاتبة هنا لا تركز علي الانتحار بقدر ما تركز علي فكرة الصراع بين الدين والماركسية، والخواء الروحي والتمزق النفسي الذي تعرض له الفرد في روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وزوال الشيوعية.
وعلي الرغم من اختلاف الكتابين من حيث الموضوع والشكل تقريبا، الا أنه تبقي التيمة الأساسية واحدة في الكتابين، وهي موضوعة الموت، فمن لم يمت في الحرب في الخارج، مات منتحرا في الداخل، كذلك يبقي التشابه في اسراتيجية السرد وهي الاعتماد علي توثيق الوقائع سواء كانت حقيقية أو خيالية، وكل ذلك عبر استخدام تقنيات سردية متنوعة، كالوصف الدقيق والحوار الداخلي والخارجي، والخطاب المباشر للمؤلف أحيانا وغيرها من وسائل.
قد لا تبدو سفتيلانا ألكسيفيتش كاتبة كبيرة في نظر البعض وربما الكثير من أبناء وطنها والعالم الخارجي اذا ماقورنت بالكتاب الروس العظام تولستوي ودوستوفسكي وتشيخوف وغيرهم، ومع ذلك فقد ترجمت أعمالها الي اللغات الانجليزية والفرنسية والألمانية، وتم قراءة أعمالها في هذه اللغات أكثر من قراءتها في وطنها أو في لغتها الأصلية، ولعلها أيضا هذه الأعمال - وجدت القبول والاستحسان لدي القراء والنقاد، بل تم إعداد مسرحيات وأفلاما عن بعضها. ونحن إذ نقوم بترجمة هذه النصوص الي العربية، نقدم صوتا مختلفا في الادب العالمي الآن وهو أدب التحقيقات الصحفية والتوثيق التاريخي غير الرسمي، وكما جاء في بيان حيثيات منح جائزة نوبل لها أنها قد منحت الجائزة عن كتاباتها متعددة الأصوات التي تمثل معلما للمعاناة والشجاعة في زماننا.
ممرضة
في كل يوم كنت فيه هناك أقول لنفسي لقد كنت حمقاء بمجيئي إلي هنا. وخاصة في الليل، عندما لا يكون لدي عمل أقوم به. كل ما أفكر فيه طوال اليوم " كيف يمكن أن أساعدهم جميعاً " لا أستطيع أن أصدق أن أحدا يحب أن يصنع طلقات الرصاص التي يستخدمونها. لمن كانت هذه الفكرة ؟ كانت فتحة الدخول صغيرة، لكن في الداخل، أمعاؤهم، و كبدهم، وطحالهم قد مزقت كلها وتحولت إلي أشلاء. كما لو كان لا يكفي قتلهم أو جرحهم، لذلك كان لابد من مرورهم بهذا النوع من العذاب أيضا. وكانوا دائماً يصرخون من أجل أمهاتهم عندما يتعرضون للألم أو الخوف. ولم أسمعهم مطلقاً ينادون علي أي شخص آخر.
قالوا لنا كانت حربا عادلة. لقد كنا نساعد الشعب الأفغاني لكي يضع حدا للإقطاع، وبناء المجتمع الاشتراكي. وعلي نحو ما لم يتطرقوا بالذكر إلي أن رجالنا يقتلون، وطوال الشهر الأول كله وأنا هناك، كانوا فقط يلقون بالأذرع المبتورة و سيقان جنودنا و ضباطنا، بل وحتي جثثهم، بجوار الخيام مباشرة. كان ذلك شيئاً يصعب جدا تصديقه، لو كنت قد رأيته حتي في الأفلام عن الحرب الأهلية. ولم تكن هناك توابيت من الزنك بعد " لم يكونوا قد قاموا بصناعتها "
مرتان في الأسبوع، كنا نتلقي إرشادات سياسية، تكلموا باستمرار عن واجبنا المقدس. وكيف أن الحدود يجب أن تكون مصونة. كانت الأوامر العليا لنا أن نرفع الروح المعنوية لكل جندي مجروح أو مريض. وكان يطلق علي ذلك رصد الروح المعنوية : فيجب أن يكون الجيش معافي! لم نكن نشعر بالشفقة، لكن صرنا مصدر الشعور بالشفقة. لقد كانت الشيء الوحيد الذي تماسكنا جميعا.
ضابط فيلق الصحافة
سأبدأ من النقطة التي تناثر فيها كل شيء علي حدة، كنا نتقدم نحو جلال أباد وكانت هناك فتاة صغيرة في حوالي السابعة من العمر تقف علي جانب الطريق. كانت ذراعها مكسورة ومربوطة بقطعة من القماش، فبدت كما لو كانت دمية ملفوفة في خرقة ممزقة. كانت عيناها داكنتين مثل الزيتون، وقد سلطتهما عليّ. قفزت علي الفور من السيارة لأخذها بين ذراعي وأحملها إلي ممرضاتنا لكنها وثبت متراجعة إلي الخلف في رعب وصرخت مثل حيوان صغير، ثم ظلت تصرخ وهي تجري بعيداً، بينما تتدلي ذراعها الصغيرة، فبدت مع ذلك كما لو كانت علي وشك أن تنفصل تماماً. ركضت وراءها أصرخ وأمسكت بها وضممتها إليَ، وربت عليها. كانت تعض وتخمش، وكل جزء فيها يرتجف مثل غيمة لحيوانات متوحشة. وهنا خطرت لي فكرة كالصاعقة، لقدأردت مساعدتها واعتقدت هي أنني أريد أنا أقتلها. الطريقة التي ركضت بها، الطريقة التي ارتجفت بها، تؤكد خوفها مني كما لو كنت مخلوقا لن تنساه أبداً.
انطلقت إلي أفغانستان بأفكار مثالية تشتعل بها عيني. قيل لي إن الأفغان يحتاجون إلينا، وصدقت ذلك، وأنا هناك لم أكن أحلم بالحرب أبدا، لكن الآن بعد أن عدت في كل ليلة أطارد من قبل تلك الفتاة الصغيرة، زيتونية العينين ذات الذراع المتدلية كما لو كانت علي وشك السقوط في أية لحظة.
وأنت في الخارج هناك تشعر نحو بلدك بشكل مختلف تماما، " الاتحاد "كما نطلق عليه، بدا ونحن هناك كما لو كان شيئا عظيما وقويا خلفنا، شيء يمكن أن ينهض دائما من أجلنا. وعلي الرغم من ذلك أتذكر، ذات مساء بعد أول معركة حيث كانت الخسائر، رجال قُتلوا ورجال أصيبوا إصابات خطيرة، فتحنا التليفزيون لكي ننسي ذلك، ولكي نري ما يحدث في الاتحاد. مصنع عملاق جديد تم بناؤه في سيبيريا، ملكة انجلترا تقيم مأدبة عشاء علي شرف بعض كبار الشخصيات، شباب في " فورنيج " اغتصبوا تلميذتين يا للجحيم، قُتل أمير في أفريقيا. كانت البلاد منشغلة بشئونها، بينما نشعر نحن باللاجدوي. كان لابد أن يقوم شخص ما بغلق التليفزيون قبل أن نطلق عليه النار ونحوله إلي أشلاء.
كانت أم الحروب، وكانوا في خضم تلك الحرب. لم يكن الناس في المجمل يعانون، لأنهم لم يكونوا يعلمون ما الذي يجري. قيل لنا إننا كنا نحارب قطاع الطرق. في تسع سنوات جيش نظامي من مائة ألف جندي لم يستطع أن يهزم قلة من اللصوص المتشرذمين؟ جيش مزود بأحدث التقنيات التكنولوجية (الله يعين أي شخص في طريق القصف المدفعي لشركائنا في حائل. أو منصة قاذفات الصواريخ: عندما تطير أعمدة التليفونات كأعواد الثقاب). لم يكن لدي قطاع الطرق سوي البنادق المكسيكية مثل تلك التي رأيناها في الأفلام القديمة، وفي وقت لاحق تم تزويدهم بالصواريخ ستينجرز والرشاشات اليابانية. لقد أحضروا لنا الأسري، فرأينا بشرا مهزولين بأيدي فلاحين كبيرة، لم يكونوا قطاع طرق، لقد كانوا الشعب الأفغاني.
للحرب قواعدها المرعبة، فإذا ما قمت بالتصوير أو حومت مقتربا من المعركة، فستلقي حتفك. دائما ما كان الأبطال زرق العيون أول من يلقون حتفهم. لعلك التقيت واحدا من هؤلاء وقبل أن تتعرف عليه. يكون قد قتل. كان الناس يقتلون في الغالب إما في شهورهم الأولي عندما يكونون كثيري الفضول، أو ينتهون إلي ذلك عندما يفقدون إحساسهم بالحذر ويصيرون أغبياء. وفي الليل قد تنسي أين كنت، ومن تكون، وماذا كنت تعمل هناك.لا أحد يستطيع أن ينام خلال الأسابيع الستة أو الثمانية الأخيرة قبل أن يعود إلي الوطن .
هنا في الاتحاد نحن مثل الإخوة. ينزل الشاب علي عكازين إلي الشارع ولا يكون معه سوي ميدالية لامعة. يمكن أن يكون واحد منا. يمكنك فقط أن تجلس فوق المقعد الطويل وتدخن سيجارة معه. لكنك تشعر كما لو كان كل منكما يتحدث إلي الآخر طوال اليوم.
تريد السلطات أن تستخدمنا في القضاء علي الجريمة المنظمة، فإذا كانت هناك اضطرابات فلابد من فضها، نستدعي الشرطة " الأفغان " فإلي حد كبير ينظرون إلينا بوصفنا الشباب ذوي القبضات القوية والعقول الصغيرة، الذين لا يحبهم أحد. لكن بالتأكيد إذا ما جرحت يدك. فعليك ألا تضعها في النار، اعتن بها حتي تتحسن.
أم
تسللت إلي المقبرة كما لو كنت في طريقي للقاء شخص ما. أشعر أنني ذاهبة لزيارة ابني. في الأيام الأولي مكثت هناك طوال الليل. لم يكن الأمر مخيفا، كنت أنتظر الربيع، لكي تتفتح البراعم الصغيرة في داخلي وتخرج إلي الأرض. زرعت أزهار الثلج، لذلك أتمني لو تلقيت تحية ابني مبكرا قدر الامكان. لقد جاءتني من هناك، من ابني.
سأجلس معه حتي المساء، وحتي وقت متأخر من الليل، في بعض الأحيان لا أدرك أنني قد بدأت النحيب حتي أفزع الطير، صرخت الغربان تحلق وترفرف فوقي، حتي أعود وأتوقف. ذهبت هناك كل يوم لمدة أربعة أعوام في المساء إن لم يكن الصباح. فاتني أحد عشر يوماً عندما كنت في المستشفي، وعند ذلك هربت بملابس المستشفي لكي أري ابني.
يدعوني ب: " أمي الكنز " و" أمي الكنز الملاك"
" حسناً، أمي الملاك، لقد قبل ابنك في أكاديمية سمولنسك العسكرية، أنا علي ثقة أنك مسرورة "
جلس إلي البيانو وغني :
أيها السادة الضباط والأمراء في الواقع
إن لم أكن أول واحد من بينهم .
فأنا واحد من سلالتهم .
كان والدي ضابطاً نظاميا، وقد مات دفاعاً عن ليننجراد. وكان جدي لأبي ضابطاً أيضاً. وابني يعد نفسه لكي يكون رجلاً عسكرياً له مشية عسكرية، وطويل جداً وقوي.. ينبغي أن يكون هوسار( جندي ) بقفازات بيضاء، ويلعب الورق.
يريد الجميع أن يكون مثله.حتي أنا، أحب أن أقلده أحب أن أجلس علي البيانو، علي نفس الطريقة التي كان يجلس بها، وفي بعض الأحيان أبدأ المشي بالطريقة التي كان يمشي بها، خاصة بعد أن لقي حتفه، وأرغب كثيراً جداً أن أراه موجوداً أمامي دائماً.
عندما ذهب لأول مرة إلي أفغانستان، لم يكتب لي لفترات طويلة جدا. انتظرت وانتظرت مرارا وتكرارا أن يعود إلي البيت في إجازة. ثم ذات يوم رن جرس التليفون في العمل.
أمي الملاك، أنا في البيت
ذهبت إلي مقابلته أمام الحافلة، كان شعره قد صار رمادياً. لم يعترف أنه لم يكن إجازة، ذلك أنه طلب أن يسمح له بالخروج من المستشفي لبضعة أيام لكي يري أمه. كان مصاباً بالتهاب الكبد والملاريا وكل شئ آخر يصيب الإنسان، لكنه حذر أخته أن تخبرني. ذهبت إلي غرفته مرة أخري قبل أن أنطلق إلي العمل، لأراه نائماً، فتح عينيه، سألته لماذا لم ينم، كان الوقت مبكراً جداً، فقال أنه حلم حلما مزعجا.
ذهبنا معه إلي أعماق موسكو. كانت جميلة، في طقس مايو المشمس، والأشجار في مرحلة الإزهار سألته ما الذي كان يحبه هناك :
" أمي، أفغانستان هي ذلك الشيء الذي لا علاقة له بما نعمل " وتطلع فقط إلي وجهي، من دون أي أحدٍ آخر.
" لا أريد أن أعود إلي تلك الحفرة، حقيقة لا أريد "
وابتعد ماشيا، لكنه استدار وقال : إنها أبسط من ذلك بكثير جداً يا ماما، لم يقل أبداً ماما " فرت الدموع من عيني المرأة في مكتب المطار وهي تشاهدنا.
عندما استيقظت في يوليو لم أكن أبكي حدقت بعين باكين إلي السقف. لقد أيقظني كما لو كان قد جاء ليودعني. كانت الساعة الثامنة. وكنت أستعد للذهاب إلي العمل. أمشي بملابسي من الحمام إلي غرفة الجلوس. ومن غرفة إلي أخري. ولسبب ما لم أستطع تحمل ارتداء هذا الفستان ذي الألوان الزاهية، شعرت بالدوار، ولم أستطع رؤية الناس بشكل صحيح، كل شئ بدا غامضاً. بدأت أشعر بالهدوء مع اقتراب وقت الغداء، في منتصف النهار.
في السابع من يوليو، كان لديه سبع سجائر في جيبه، وسبعة أعواد كبريت وكان قد أخذ سبع صور بكاميرته الخاصة، وكتب سبع رسائل لي، وسبعة إلي صديقته، وكتاب علي مائدة السرير كان مفتوحاً علي الصفحة السابعة. لقد كان كتابا ل كوبو آبي " حاويات الموت ".
كان أمامه ثلاث أو أربع ثوانٍ يستطيع خلالها أن ينقذ نفسه. كانوا يندفعون بشدة من علي حافة المركبة. لم يستطع أن يكون أول القافزين، لم يستطع أبداً.
من نائب قائد الفوج للشئون السياسية الميجور إس. آر. سينيلنيكوف، وفاء لواجبي كجندي، ينبغي أن أحيطكم علماً بأن الملازم أول فاليري جيناديفيتش قد قتل اليوم في الساعة العاشرة وخمس وأربعين دقيقة.
المدينة بكاملها عرفت بكل ما جري. في نادي الضباط علقوا شارة حداد سوداء وصورته. كانت الطائرة التي ستحضر تابوته علي وشك الوصول في أية لحظة، لكن لم يخبرني أحد بأي شيء. لم يهيئوا أنفسهم للكلام معي، في العمل كانت وجوه الجميع ملطخة بالدموع، سألت : "ماذا حدث ؟"
حاولوا أن يبعدوني بشتي الطرق. أتي صديق بالقرب مني، ثم في الأخير وصل طبيب في معطف أبيض. قلت له أنت مجنون، إن الأولاد مثل ابني لا يمكن أن يقتلوا. بدأت في دق المائدة. جريت نحو النافذة وبدأت أضرب علي الزجاج. أعطوني حقنة، واصلت الصراخ. أعطوني حقنة أخري، لكن لم يكن لتلك تأثير أيضاً، كنت أصرخ: " أريد أن أراه، خذوني إلي ابني " في نهاية المطاف كان لابد لهم أن يأخذوني.
كان هناك تابوت طويل. وكان الخشب غير مسوي، ومكتوب عليه بحروف كبيرة بطلاء أصفر " فولوفيتش " لابد أن أجد له مكاناً في المقبرة، مكان ما جاف، مكان ما لطيف وجافٍ. لو كان ذلك يعني خمسين روبل رشوة، فلا بأس. ها هي، خذها، فقط اجعلني أتأكد أنه مكان جيد ولطيف وجاف. في الداخل عرفت كم كان ذلك مثيراً للاشمئزاز، لكنني فقط أردت له مكاناً لطيفاً وجافاً. في تلك الليالي الأولي لم أتركه. مكثت هناك.. يريدون أن يأخذوني إلي المنزل، لكنني لا أريد العودة.
عندما أذهب لرؤيته أنحني وعندما أتركه أنحني مرة أخري، لم أصب أبداً بالبرد حتي عند أدني درجات الحرارة، أكتب رسائلي هناك، لا أتواجد قط في المنزل إلا عندما يكون لدي زوار. عندما أسير عائدة إلي منزلي علي ضوء مصابيح الشوارع الليلية، والمصابيح الأمامية للسيارات، أشعر أنني قوية للغاية، لدرجة أنني لا أخاف من أي شئ.
الآن فقط أفيق من حزني الذي يشبه الاستيقاظ من النوم. أريد أن أعرف غلطة من هذه. لماذا لا يقول أحد أي شئ ؟ لماذا لا يقال لنا من الذي فعل ذلك ؟ ولماذا لا يتم تقديمهم إلي المحكمة ؟
أحيي كل زهرة علي قبره، كل جذر صغير، وساق صغيرة." هل قدمت من هناك ؟ هل قدمت من عنده ؟ لابد أن تكوني قادمة من عند ابني ".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.