لن يأتي صوت الشاعر والكاتب الصحفي والمترجم عبد القادر حميدة مرة أخري حتي يناقشني فيما أكتبه هنا في صحيفة "أخبار الأدب"، إذ كان يحرص دوما علي مهاتفتي ، مرة لإطراء كان يخجلني كثيرا،ومرة أخري لتدقيق معلومة تاريخية سيقت في الحديث دون إبداء ملابساتها الكثيفة،ومرة ثالثة للاستطراد في سرد قصص وحكايات مرتبطة ببعض ما أكتبه ،ولا أنسي حديثه المطول حول الشاعر الراحل محمد مفتاح الفيتوري ، وكنت قد نشرت مقالا بانوراميا عنه بعد رحيله ،وذكرت عددا من الوقائع المرتبطة ببدايات الفيتوري ، خاصة قصة حبه لشاعرة مصرية مرموقة ،ومحاولات الضغط الفيتورية علي الشاعرة لاستقطابها ، وعندما كانت الشاعرة تصده ،كان الفيتوري يزداد عنفا ، حتي إنه كتب قصيدة شهيرة عنوانها "الأفعي"، ونشرها عام 1955 في مجلة "الرسالة الجديدة"، جاء فيها: (في ذلك الركن من قلبك - الحقير المرائي.. - تمتد مقبرة ضخمة.. - بغير انتهاء) وسرد لي الراحل عبد القادر حميدة بضع حكايات عن تلك الواقعة التي أصبحت طريفة بعد حدوثها بعقود عديدة ،ولكنها ساعة أن كانت قصة تتداولها الحياة الثقافية المصرية آنذاك،كانت مأساة بالنسبة للشاعرة ،وقد تحدّثت عنها بأسي شديد جدا في مذكراتها التي نشرتها منذ سنوات بعيدة. أورد هذه اللمحة عن الراحل الكبير ،لأنني كنت أنتظر منه أن يكتب مذكراته ، تلك المذكرات الغائبة ،والتي كنا سنتعرف علي ملامح مرحلة تكاد تكون بعض تفاصيلها غائبة ، رغم أن كثيرين حدثونا عنها ،وأطربوا أسماعنا بقصص وحوادث ووقائع كثيرة ، منهم سليمان فياض وفاروق شوشة وسمير سرحان ومحمود السعدني وزكريا الحجاوي ويوسف الشريف وصلاح عبد الصبور وغيرهم من كتّاب وفنانين وشعراء ،ورغم ذلك هناك بعض الكتّاب تظل شهاداتهم الغائبة ،ذات مذاق خاص ،وذات أهمية فريدة. لماذا تلك الأهمية لسيرة عبد القادر حميدة الغائبة ؟ ببساطة لأن عبد القادر حميدة عاش زاهدا كبيرا ، لم يكن مزاحما ولا منافسا، ولا يفرض ظله الجميل هنا أو هناك ، رغم استحقاقه لكي يكون رائجا جدا ،وكتبه القليلة تكون متداولة بين الناس ، حيث إن دواوينه الثلاثة : (أحلام الزورق الغريق،والقناع والوجه القديم ، وليالي الغضب)، تمثّل قيمة فنية عالية ،بما تحمله من نفحات الرومانسية الأبوللية ، تلك الرومانسية التي كادت تغيب عنّا بغياب فرسانها التالين بعد مدرسة "أبوللو" ،ومنهم الشاعر كمال نشأت ، وعبد المنعم عواد يوسف وآخرون ، وربما يكون عبد القادر حميدة أقلّ الرومانسيين الجدد حظّا في الانتشار والذيوع والمقروئية ، حيث إنه انشغل بالعمل الصحفي لسنوات طويلة ، كذلك عمل لفترات طويلة في البلاد العربية ،وترأس تحرير بعض مجلاتها ،وكذلك انشغل بالترجمة ، وتوزعت اهتماماته بين الكتابة الصحفية والترجمة وإدارة العمل الصحفي وكتابة القصة ، ولذلك جاء الشعر وهو سفينته الأولي في الإبحار الإبداعي بطيئا وعزيزا. ولذلك لم تنتبه الحركة النقدية لإبداعاته هذه ،إذ أصبح هو أحد متون الحركة النقدية ، وله كتاب مهم في النقد المسرحي ، صدر عن كتاب الإذاعة والتليفزيون ، كتب فيه عن الحركة المسرحية عبر عقود عديدة ،وأعتقد أن لهذا الكتاب مذاقا خاصا إذ إن حميدة كتبه بقلم الصحفي ، وبروح الفنان والشاعر والأديب ، لذلك كانت الكتابة حميمة ومفعمة بذلك الوهج الذي كان يشعّ من كتابات الراحل الأنيق كما وصفه رجاء النقاش ، وسار علي دربه الشاعر الكبير فاروق شوشة ، وذلك عندما أصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب مختارات شعرية له ، وقدمها الناقد رجاء النقاش ، وكتب عنها الشاعر فاروق شوشة مقالا بديعا في جريدة الأهرام ،وذلك في 23 مارس 2008 . الشهادة الغائبة للشاعر والقاص والصحفي والمترجم عبد القادر حميدة ، كانت ستكشف عن كواليس الاستبعاد متعدد الوجوه ، هذا الاستبعاد الذي يأخذ أشكالا معلنة في بعض الأحيان ، ويأخذ أشكالا مستترة في أحيان أخري ، وفي ظل تلك الأشكال الاستبعادية ، تكتمل وجوه تزييف التاريخ ،وتنصيب رواد غير حقيقيين للظواهر الإبداعية ،وإزاحة الرواد والفاعلين الأكثر تأثيرا ، وهكذا لا أحد يكتب عن جيلي عبد الرحمن وفاروق منيب وعبدالله الطوخي وبدر نشأت وكامل أمين وكمال عبد الحليم ومحمد صدقي وعبد العليم القباني وفتحي سعيد وغيرهم، وتظل الطبول تدق بفعل فاعل في كل وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة. ولكن لا بد من ذكر أن عبد القادر حميدة ، قد تم الاحتفاء به في محافظته دمنهور ، وتحدث وكتب عنه أصدقاؤه ومجايلوه وتلاميذه ، ونشرت تلك الشهادات في كتاب مستقل ، أتمني أن يعاد نشر هذا الكتاب مرة أخري ،ونشر الآثار التي تركها الشاعر والقاص عبد القادر حميدة ، حتي يتم تدارك ذلك الاستبعاد ،وفي تلك الأعمال يتم جمع النصوص المجهولة الأولي،مثل تلك القصة التي تنشرها أخبار الأدب، وهي من أوائل ما نشره الراحل في مجلات كبيرة ، وقد كان حميدة يراسل عددا من المجلات والصحف في ذلك الوقت، رحم الله الراحل الخلوق والجميل وأدخله فسيح جناته.