كنا في الشتاء يومها ربما، لأنني أذكر جيدا الزكام الذي ضايقني كثيرا، جاء محمد نادي علي من تحت البيت، تسحبت من خلف ظهر أمي، وكانت تجهز الغداء لأتناوله بعد خروجي من المدرسة، نزلت، قال: - خالي بيموت تعالي معايا نروح بيته. كنت في الثانية عشرة من عمري تقريبا، ولم يكن أحد من عائلتنا قد مات بعد، ففرحت بما قال محمد، وقلت، ياللا بينا، أخذني خلفه علي الدراجة، وكنت لا أعرف كيف أقود دراجة، فقد حذرتني أمي دوما من الدراجات، والكلاب، والبنات، فقد كانت طفولتي سوداء. وصلنا إلي بيت خال محمد، ركن الدراجة بجوار مدخل البيت، وصعدنا السلم، فوق السلم تقف بعض النسوة وبعض الرجال، وبداخل الشقة التي ظننت أنها كبيرة المساحة لمحت ناسا كثيرين، ما أن صعدنا عدة خطوات، حتي انفجر صراخ النسوة، وشعرت بمحمد بجواري يرتجف، وسرت في جسمي قشعريرة وبدأت ساقاي تهتزان وتذكرت أنني عندما أعود إلي البيت لابد أن أمي سوف تعطيني علقة ساخنة، وراح المخاط يسيل من أنفي، فلجأت لكم قميصي، وتمنيت لو أن النسوة انكتمن وانتهي هذا الصراخ الذي جلجل في البيت، ثم انشق من الصراخ صوت رجالي حاسم يقول: بس ياست منك لها، عم ابراهيم عايش والله بيتنفس!.. في ثوان خرست النسوة، وسمعتهن يقلن كلمات مثل، بينازع، يحيي العظام وهي رميم، وحدوه ياستات!، ثم انطلقت زغرودة هزت جنبات المكان، والتفت إلي محمد وقال: - خالي عايش، بينازع، لكن ما متش. ثم قال: -أنت جوعان؟ أنا جوعان، هادخل اجيب ساندوتش. قعدت علي سلم البيت، وفوق مني نسوة، فوق درجات السلم العالية، وعاد محمد وأعطاني ساندوتش جبنة، وعنقود عنب، فقضمت لقمة من الساندوتش ورحنا نأكل علي درج السلم، بعد دقائق، سمعت صوتا صاعقا يقول: - إنا لله وإنا إليه راجعون. وانطلق الصراخ من جديد، فتوقفت لقمة في زوري، ووجدت محمد ينهض واقفا مشرعا في بكاء عال، جذبت محمد من ذراعه وقلت: - اقعد، يكون بينازع! قال محمد: لاشكله مات. راح الصراخ يزيد ويزيد، ووقفت بعض النسوة وتزاحمن داخل الشقة المكتظة بالناس، وعاد رجل ليقول: - ياجماعة اخرسوا والله حي، حرام عليكم هتموتوا الراجل بالشكل ده. ارتبكت أنا ولم أكن أفهم أين الحقيقة، وشعرت بالندم أني جئت مع محمد من الأساس، وفكرت أنني ظننت أن الموضوع سيكون أسهل من هذا، أنهيت الساندوتش، وسط الصراخ، وقمت ناهضا محتضنا عنقود العنب، وقال محمد بصوت غطته صرخات النساء، ومختنق بالبكاء: - كده تمام، يبقي مات. نزلت السلم، وخرجت من باب المنزل، تاركا محمد خلفي، الزكام يقتلني، وعنقود العنب حلو المذاق، وقررت أن أمشي حتي بيتنا، وأنا وحظي مع أمي، ومشيت عدة خطوات مبتعدا عن بيت خال محمد، والصرخات ترن في أذني، وكنت أتوقف كل كم خطوة وأنظر خلفي، إذ كان يخيل إلي أنني أسمع صوت زغرودة.