تتغير أدوار الكتاب والمثقفين، وفقاً لمحددات اجتماعية، وقومية، وعالمية، كما أن إجابات الكتاب حول وظائفهم، وتصوراتهم لأدوارهم في مجتمعهم وعالمهم، هي حصيلة شبكة من الانتماءات والإدراكات، التي هي بدورها حصيلة مركبة لأصول الكاتب الاجتماعية، والفكرية، ومن ثم لا يستطيع المرء- كائناً من كان- أن يفرض تصوراً "مطلقاً" لدور الكاتب ولوظيفته. أي أن الخطاب حول دور الكاتب في عالمه هو نسبي، ومتغير. كذلك فإن المحددات التي تحكم الممارسة الإبداعية للكاتب وإنتاجه للأفكار تنطوي علي درجة من النسبية، والإطلاق معاً، ومن ثم فإن من المشروع الحديث عن "خطابات متعددة" حول دور الكاتب في المجتمعات الجنوبية في عالمنا، تختلف عن "خطابات أخري" في الشمال تتحدث عن أدوار ووظائف للكاتب متعدية العرقيات، أو إنسانية ولكنها تنطلق من إطار ثقافي، وحضاري غربي تماماً. وانطلاقاً من هذه الخريطة المملوءة بالمحددات والضوابط، هل من المشروع الحديث عن أدوات للكاتب متعدية القوميات والثقافات وبتعبير أكثر دقة هل هناك شرعية للتساؤل عن دور الكاتب في العالم الجديد الذي يتشكل حولنا، بسرعة ووتائر غير مسبوقة في تاريخنا الحديث؟ ليس ثمة شك في أن الإجابة علي هذا التساؤل المركب تتطلب تحليلاً مبدئياً للتحولات الهيكلية الكبري التي تجري في عالمنا، سواء في شماله الغني المترف، والصاعد إلي آفاق غير مألوفة في تطوره، أو في أقاليمه الجنوبية المتخمة بالمشكلات المعقدة. وفي إطار تحديد الملامح الأولية للتحولات العاصفة التي يمر بها النظام الدولي، والأنساق الاجتماعية، والسياسية والثقافية، قد يري البعض أن مثل هذا السؤال أضحي أمراً غير مشروع، وأنه يدخل ضمن أسئلة وإشكاليات الماضي فلكل عصر أسئلته وإشكالياته التي تترافق مع طبيعته المتحولة. وقد يري البعض الآخر أن السؤال عن دور الكاتب في عالمنا المتغير لايزال يحتفظ بحيويته وجدته فللكاتب دور دائماً، ولكن مضمونه هو الذي يتغير وفقاً لتطور الأوضاع القومية والعالمية. إن الإجابة عن هذا السؤال تحتاج إلي استجلاء بعض عناصر التغير في عالمنا التي ظهرت الآن، واستشراف أبعاد التغير في مداه القريب والمتوسط حتي نستطيع الإجابة عن السؤال: ما طبيعة هذه التحولات الجديدة، وانعكاساتها علي نظم الفكر والكتابة وأدوات الرؤية؟ دخل عالمنا منذ نهاية الشهور الأخيرة في عقد الثمانينيات، ومفتتح التسعينيات، مرحلة تاريخية فارقة في التاريخ الإنساني، ويري البعض أنها بدايات لقطيعة معرفية، ونظامية، غير مألوفة في التطور الإنساني، وأبرز ملامح هذه القطيعة تتمثل فيما يلي: 1- أفول سلطان النظم السياسية الشمولية، وانهيار مؤسساتها وقوانينها، وأنماط حياة شعوبها، وهذا الانهيار والتداعي السريع، يشير إلي بؤس الأيديولوجيات ونظم الأفكار الشمولية التي تحتكر الحقيقة. إن تأمين الفعالية الإنسانية، وضبطها الآلي والأمني قد فشل مهما رفع من شعارات حول قيم العدالة، والجماعية، والتكامل القومي الذي يقوم علي الصهر بالحديد والنار، ويمثل انهيار هذه النظم المطلقة انتصاراً لحركة الشعوب، والدعاوي الديموقراطية والتعددية، ولاشك أن الكتاب والمبدعين لعبوا دوراً بارزاً في تهيئة العقل الجماعي لهذه الشعوب لمثل هذه التغيرات العاصفة، وفي إطار هذا التغير صوب التعددية والديموقراطية، ظهرت أشكالات جديدة، زادت الوضع في هذه المجتمعات تعقيداً وكشفت عن أزماتها العميقة فظهرت الدعاوي القومية والاستقلالية في مواجهة التكامل بين القوميات المؤسس علي استراتيجيات الصهر وظهرت الدعاوي الدينية، والعرقية، بكل انعكاسات ذلك علي هياكل الدول والمجتمعات. وعلي مستوي النظم الغربية- الرأسمالية- دخلت هذه المجتمعات مرحلة متطورة من التقدم التقني والعلمي، والرفاهة الاقتصادية، ولكن هناك مؤشرات هامة علي بروز أزمات من نوع جديد، وتمثل مظهراً أوروبياً وأمريكياً لأزمة المشاركة السياسية التي تعاني منها بلدان العالم الثالث في جنوبي الدنيا، بل إن البعض يحذر في فرنسا من أن أبرز أمراض السياسة الغربية ونظمها، وأفكارها وخياراتها تتمثل في أن مثل هذه النظم والمجتمعات، يدخل فيها البشر والنظم والأفكار عصر حرية بلا اختيار، وسيطرة نموذج أيديولوجي جديد يطلق عليه الأيديولوجية الرخوة، حيث إن الجميع يطالبون بنفس القيم والزفكار، ويدافعون عن نفس المصالح أياً كانت انتماءاتهم السياسية والحزبية والاجتماعية والفكرية، فالجميع يتحدثون عن نفس القيم بلغات مختلفة، والجميع يتحدثون لغة وخطاب الجيل الثالث من أجيال حقوق الإنسان. 2- صعود النسبيات الثقافية والتعدديات وأفول المطلقات: وهذا يعني وبوضوح انتهاء عصر الاحتكار الأيديولوجي للحقيقة الموضوعية كما يعني أن نظاما للأفكار، أو أي نسق فلسفي أو رؤية لكاتب أو مدرسة فكرية غير قادرة علي استيعاب تعدد وغني الواقع الموضوعي الذي أصبح عصياً علي السيطرة الفكرية الشاملة عليه، وإنما أصبح هذا الواقع الموضوعي المركب مادة للرؤي، والتحليلات، الفلسفية والفكرية والعلمية المختلفة، ولا يزعم أي منها القدرة علي الإمساك بهذا الواقع الصعب! 3- صعود سلطة الإعلام: إن أبرز ملامح العصر الجديد، هو الدور الاستثنائي للنظام الإعلامي العالمي، الذي تسيطر عليه الولاياتالمتحدةالأمريكية أساساً، من خلال شبكات إعلامية عملاقة تتحكم في تيارات الأخبار والمعلومات، وكذلك الرؤي والإدراكات المبثوثة بين ثناياها، بل إنها تسيطر علي صياغة المخيلات الجماعية لشعوب، وقوميات، وبشر متعددين عبر أفلام السينما، والمواد الدرامية المخصصة للتليفزيون، وعلي حركة تبادل الإعلام السمعي والبصري، بل وعلي إنتاج الكتب، والمواد الثقافية، والاستثمارات المخصصة في الإعلام والثقافة، والتي تفوق استثمارات دول أخري عظمي في الشمال الغربي. إن أخطر ما يحدث في مجال النظام الإعلامي العالمي، هو أنه يمثل أداة إعادة صياغة للعقل، وأنماط السلوك في العالم، أي أنه أداة رئيسة لتدويل نمط التفكير والسلوك والاستهلاك الأمريكي والغربي وفرضه علي جميع النظم والمجتمعات، إن ذلك يمثل تهديداً للثقافات وأنظمة التفكير الأخري في جنوبي الدنيا، بل في بعض الأقطار الآسيوية التي هي قاب قوسين أو أدني من دول الشمال الصناعية المتقدمة، إن الإعلام الغربي، والأمريكي تحديداً يسحق "بنعومة" أبرز مكونات التراث الإنساني المتعددة بل إن النقد الذي وجه للنظم الفكرية الشمولية من أنها تحاول أن تفرض تصوراً شاملاً وكونياً علي العالم، هو ذاته النقد الذي يرتد الآن إلي الذين قالوا به. 4- الثورة الصناعية الثالثة وما بعدها: إن أبرز مكونات العالم الجديد الذي بدأت ملامحه في الظهور علي خريطة الشمال، كانت هي التقدم العلمي والتكنولوجي وتسارعه مع سريان الثورة الصناعية الثالثة، وظهور بوادر لما بعدها، وهذا يعني أن الأنظمة التكنولوجية والاجتماعية تتغير بوتائر غير مألوفة بل إن مفاهيم الزمن، واختصار الوقت ونظم الأفكار دخلت عصر ما بعد الحداثة، وسيدخل المجتمع معها العصر ما بعد الحديث (إذا جاز هذا التعبير) ونستطيع أن نقول بلا وجل إن عصراً بأكمله علي وشك الاندثار وأن عالماً جديداً بزغ يحمل معه أساليبه وطرائق تفكيره الجديدة. ومن ناحية أخري فإن التقدم التكنولوجي، وثورة الچينات والهندسة الوراثية تدخل مرحلة ينذر البعض بأنها قد تخرج عن مجال سيطرتنا عليها، ومن ثم نستطيع أن نقول مع رئيس وزراء اليابان الأسبق ياسوهيرو ناكاسوني إن البشرية مهددة داخلياً، وخارجياً عن طريق النويات: نويات الذرة ونويات الجينات، وفي ضوء هذا الخطر يضع هذا السياسي الياباني البارز يده علي إشكالية التقدم العلمي، والتكنولوجي والمتمثل في ضرورة أن يوضعا في مكانهما اللائق كجزء من الحضارة الإنسانية بحيث لا تكون لهما الغلبة والسيادة المطلقة علي البشرية. 5- أزمة التقني وثقافته: إن صعود التقني، والمنظم في النظم الرأسمالية المتقدمة، ترافقت معه سلطة التكنوقراط ورؤيتهم الفنية للعالم وللمجتمع بل إن صورة الدنيا أخذ يصوغها التكنوقراط في الصناعة والتجارة والسياسة، ثم امتد هذا التأثير إلي الثقافة أيضاً، ولكن التطور التكنولوجي ذا الطبيعة الاستثنائية يشير إلي خطورة بل وأزمة الرؤية والثقافة التكنوقراطية للعالم، حيث تسيطر عليها قوانين الربح والاستهلاك وتحويل العالم إلي سوق متعدد للقوميات تعربد فيه فكرة المكسب، واللذة، والاستهلاك، غير عابثة بالقيم والأديان والثقافات الأخري التي تطرح أنماطاً أخري للسلوك والقيم وأساليب الحياة. إن استمرارية سيطرة التقني، وثقافته تضع العالم أمام مفترق طرق بالغ الخطورة. وأخيراً فإن التغيرات الهيكلية في عالمنا تشمل النظام الدولي، والبيئة، والنظام العلمي العالمي، وضبط التسلح، والاعتماد المتبادل، وتصفية النزاعات العالمية والإقليمية، وفي هذا السياق المتغير سوف تتواري قضايا، ومشكلات وتصعد قضايا وأولويات أخري. وهناك أيضاً مشكلات جديدة تواجهنا في جنوبي العالم حيث المديونية المتفاقمة وشيوع الفساد واختلال النظم البيئية، وانتشار الأوبئة واعتلال الصحة العامة، فضلاً عن ضمور المشاركة السياسية وغياب الحد الأدني من حقوق الإنسان.. إلخ، إنها قائمة ضخمة متخمة بالمشكلات المتعددة. وفي ضوء هذا المشهد الإنساني لمتغيرات العصر والعالم، هل يمكننا أن نحدد دوراً للكاتب في عالمه المتحول؟ إن الإجابة علي هذا السؤال أصبحت كما قلنا أكثر صعوبة من ذي قبل فافتراض دور للكاتب يقوم علي فكرة أن هناك نظاماً للأفكار، يطرح رؤية للإنسان وللعالم، وأدواراً لقوي اجتماعية- سياسية معينة. ومن ثم يتحدد دور الكاتب، ومهامه في إطار انتمائه إلي هذا النظام أو ذلك من نظم الأفكار. أما الآن وفي ظل هذا التصدع للأيديولوجيات ونظم الأفكار، وشيوع التعدديات والنسبيات الفكرية وتعقد الواقع الموضوعي ومع سيطرة الأيديولوجيات الرخوة التي ترفع ذات القيم والمصالح، هل نستطيع أن نحدد دوراً للكاتب في عالمه المتغير؟ إن البعض يطرح تصوراً تشاؤمياً حول وجود الكاتب في العصر ما بعد الحديث، فهل تنسخ الحضارة المتغيرة القادمة الكاتب وتزرع بدلاً منه الكاتب الآلي ما بعد البشري إلخ.. هل سوف يظهر الكاتب- الروبوت المقابل إلي العامل- الروبوت، أو المنظم الروبوت؟ إن مثل هذه التصورات المفزعة قد تطيح بالتصورات والأجواء الرومانتيكية، للكاتب والكتابة ومكانتهما المجتمعية بكل الانعكاسات الدرامية لذلك. وثمة آخرون قد يرون أنه لا مجال لمثل هذه الرؤي التشاؤمية، وأن الكاتب سيبقي ما بقي الإنسان، وأن التغير قد يشمل أدوات التفكير والكتابة لتتلاءم مع التطورات التكنولوجية الجبارة، وأن الكاتب والكتابة سيبقيان ما بقي الإنسان صانع الآلة ومحركها. إن هذه الرؤي الحدية التي لاتزال تدور بين تخوم متداخلة من الحقيقة والخيال تشير إلي صعوبة وضع قائمة بأدوار الكاتب ومهامه في عصرنا الجديد. وهناك يثور السؤال: أي كاتب وأية أدوار؟ يمكننا أن نغامر بالقول مع البعض إن هناك وظيفة للكاتب، وهناك دور ومهام. ويمكننا أن نصنف هذه الأدوار إلي نوعين يرتبطان بانتماء الكاتب القومي والعالمي. ونحددهما علي النحو التالي: أ- إن هناك أدواراً متميزة للكاتب في جنوبي العالم، ترتبط أساساً بانتمائه الاجتماعي، وقيمه، ومصالحه، وقد لعب المثقف الحديث بتعبير "شيلز" دوراً بارزاً في تزويد الحركات الثورية بمذاهبها وقد انصرم هذا العصر، وأصبح أمام الكاتب مهام بالغة الأهمية باعتباره ضمير مجتمعه، ومنتج القيم الرمزية، وأداته التنويرية في مواجهة المصير الجماعي، وفي ظل حالات هدر الإمكانات، والفساد، وضعف المشاركة السياسية وتزايد القمع وتزايد معدلات الفقر، والعسر المادي، والتهميش المتزايد للإنسان والمجتمع إزاء الشمال، والتخلف العلمي، والتكنولوجي، وتدني دور الثقافة، والكتاب.. في ظل هذه الظروف الصعبة يظل دور الكاتب مهماً في لعب أدوار التنوير، وفي الموقف النقدي إزاء سلطة المحرمات علي العقل والعلاقات الإنسانية والإنتاجية، وفي تحرير العقل الجماعي في بلاده من الأوهام والأساطير التي تستغلها الصفوات المسطرة في المزيد من الاستغلال والقهر. وهذا الدور أصبح بالغ الأهمية مع تزايد الفجوة العلمية والمعرفية مع الشمال، ومن ثم فإن دور الكاتب في التعامل النقدي مع تيارات الفكر أصبح ذا أولوية مطلقة في الوصل ما بين شعبه وثقافته وبين ما يدور في الشمال، إن الدور التقليدي للكاتب- وفقاً لجرامشي- في تقديم التصور المتكامل والمتجانس للعالم قد أصابه الضمور ولكن وظيفته التنويرية والعقلانية وما بعد الحديثة أصبحت تحتل مكانة عليا في هيكل أدواره الجديدة والمتغيرة. إن إنتاج المعرفة الجديدة المعمقة لرصد وتحليل الواقع الموضوعي لازالت مهمة قائمة، فضلاً عن أن استنباط رؤي واستراتيجيات التغيير في مجتمعه أصبحت مرتبطة بإشاعة الوعي بالمعرفة، والعلم، وثمة دور هام للكاتب في جنوبي العالم، في إعادة التقييم النقدي لسلطان الموروث القومي والقيمي، بهدف استجلاء قيمة الإنسان الرفيعة القابلة للحياة. إن الدفاع عن سلطان العقل، وحرية شعبه وأغلبيته المحرومة وحقوقها، هي من مهام الكاتب وأدواره، وهناك أهمية ملحة في تحرير الثقافات الفرعية والمهمشة من قيود العرف والسياسة، والدين، والمصالح السائدة. إن سلطان المحرم في جنوبي العالم- ومحرمات أخري في الشمال- يسحق بعنف إبداعات وتجليات إنسانية عميقة في عالمنا. إن دعم حقوق الإنسان، والقيم الديموقراطية، والإنسانية هي جزء من هيكل اهتمامات وأدوات الكاتب في عالمنا الجنوبي. ب- إن مهمة الكاتب في الشمال قد تبدو مختلفة، أو ذات سمات خاصة، في ظل تراكم معرفي هائل، وفي ظل سيطرة أفكار وفلسفات تمثل مدلولاتها إطاراً معروفاً ومألوفاً في الحوار هناك. ومن الصعب تحديد مهام وأدوار للكاتب الغربي، فدور الكاتب هناك هو أن يكون تعبيراً موضوعياً عن ذاته، وواقعه، ومدرسته الفكرية، أو نظرته الخاصة، حيث لا توجد سلطات قاهرة أو محرمات أو قيود علي الفكر وهذا ما يزود النظم الثقافية في الشمال بالحيوية والإبداع، وفي ظل التعدديات الفنية في الغرب فإن مسألة تحديد أدوار للكاتب مسألة تبدو غريبة، أو غير مألوفة الآن إذا ما قورنت بأيام سيطرة السارترية ومدرسة فرانكفورت، وألتوسير، ولوفيفر، ولاكان، وميشيل فوكو.. إلخ. بل إن تطلعات واهتمامات صفوة الكتاب المبدعين في أوروبا والغرب أيام صعود الموجات في العالم الثالث قد أصابها التآكل فالغرب وكتابه أصبحوا أسري مركزية الثقافة والقيم الأوروبية، وأصبح هناك نفور شعبي ونخبوي إزاء قضايا الجنوب ومشكلاته! في ظل هذه الأجواء الجديدة، قد لا نطرح أدواراً للكاتب في الشمال، ولكن نود أن نشير إلي بعض الجوانب الأساسية في المشهد العالمي الراهن، والمستقبلي، ربما وضعت علي قائمة اهتمام الكاتب في الشمال. لعل أبرز هذه الجوانب قاطبة من وجهة نظرنا في الجنوب هو أن الجنوب أصبح مجالاً للإبداع الإنساني بتعددياته البالغة الثراء، وهو ما يظهر في الإبداع الأدبي والعلمي في أمريكا اللاتينية، وفي بعض المناطق من افريقية، وآسيا، وهذا الإبداع هو مكون مهم من مكونات الإبداع الإنساني، ولا تكتمل بدونه الإنسانية ما بعد الحديثة، علي نحو ما تشير إلي ذلك حركة ترجمة هذا الإبداع في اللغات الأوروبية الحية. وعلي هذا فبقدر احتياج الجنوب للإنتاج الثقافي في الشمال، بقدر مشاركة الجنوب في إغناء ثقافة الشمال، إن أصوات اكتافيوبان، ونجيب محفوظ، وجابرييل غارثيا ماركيز، وخورخي لوي بورخيس، وجورج أمادو، وخوليو كورتزار، أصبحت جزءاًً من مخيلة وتكوين المثقف والقارئ الغربي بلا نزاع. إن الإنسانية لا يمكن أن تتقدم بشمالها فقط دون جنوبها، والجنوب ليس مجرد أسواق، واستغلال، وربح، وفقر، وإيدز، وطاعون، ولابد أن يكون هناك تفاعل خلاق جديد ليس فقط بين الشمال- الشمال، وإنما أيضاً بين الشمال والجنوب.