ترى لماذا يبذل الروائيون كل هذا الجهد لتحويل الواقع الذى يعيشه الناس إلى خيال، بينما الواقع أكثر ثراء عما يمكن أن يتخيله الكتاب؟ لماذا تراجع الأسلوب الواقعى فى الكتابة الروائية لتطغى عليه كتابات تتسم بكل أنواع الغرابة والشذوذ فى الشكل والمضمون باسم التجريب والأدب الجديد؟ إن مثل هذا التساؤل قد يثير حفيظة بل وريبة الكثيرين من المرتبطين بهذا المجال، سواء أكانوا كتابا، أو نقادا، أو حتى قراء من الشباب بالذات. قد يعتبرون مجرد طرح مثل هذا السؤال محاولة يائسة من كتاب تقليديين للدفاع عن فن روائى تخطاه الزمن إلى ما هو إبداع جديد. الهدف من هذا المقال ليس الدخول فى مفاضلة بين الاتجاهات الأدبية وإنما محاولة لإثارة جانب يتعلق بالكتابة الروائية ظل مهملا فى بلادنا، جانب خاص بالدراسات الاجتماعية الخاصة بالأدب، فالأدب الروائى ظاهرة ثقافية إبداعية ليست مفصولة عن المجتمع الذى يتم فيه إنتاجها. لذلك لكل عصر من العصور تيار أو تيارات أدبية تعكس أو تتأثر بالواقع الاجتماعى والثقافى السائد الذى ظهرت فيه، والتيارات المتصارعة بين طبقاته، وفئاته المختلفة، كما تتسم أحيانا بإرهاصات تشير إلى المستقبل الذى ستتجه إليه. مثلا فى هذا الصدد فالفانتازيا الواقعية التى ازدهرت فى أمريكا اللاتينية كثيرا ما كانت تصور المجتمعات الاستبدادية التى سادت فيها خلال سنين طويلة، كما كانت انعكاسا للوسائل الفنية التى لجأ إليها الكتاب الروائيون فى الجنوب الأمريكى للتحايل على العقبات التى اعترضت محاولاتهم للتعبير عن البشاعة، والتناقضات التى كانت تتصف بها المجتمعات التى حكمها طغاة كان أغلبهم من العسكريين. فى عصرنا هذا، عصر السوق الحرة والعولمة النيوليبرالية أصبحت الكتابة الروائية والقصصية فى بلادنا تشبه نوعا من السوبرماركت الذى تزدحم فيه مئات النماذج من السلع المتشابهة فى غرضها، المختلفة فى تفاصيلها، التى تستهدف إيقاظ وتأجيج رغبات المشترين لاستهلاكها أو امتلاكها، وتصيبهم بالحيرة لحظة أن يقدموا على اختيار ما يريدونه منها، وهى حيرة مفيدة لأباطرة السوق لأنها تحفز الناس على البحث عما هو جديد، وتعطيهم إحساسا كاذبا بالحرية فأمامهم فرص للاختيار لا حصر لها تقريبا، بينما المضمون فيها، والفائدة منها لا تختلف كثيرا فهم يسعون أساسا إلى تشجيع الرغبات والقيم الاستهلاكية. بالطبع لا يمكن أن نطبق هذا التشبيه حرفيا عند الحديث عن الأدب الروائى والقصصى، لكن بعيدا عن فكرة الالتزام السياسى للأديب التى روجت له النظم البيروقراطية الاستبدادية فى بلاد كانت توصف بأنها اشتراكية يطرح هذا الوضع سؤالا؛ أليس للأدب الروائى والقصصى بل للفنون جميعا تأثير مهم على فكر الإنسان، ووعيه ووجدانه، على ثقافته، ونظرته للمجتمع الذى يعيش فيه؟ أليس من المهم أن يعى الروائيون، والنقاد، وأهل الفن صدى أعمالهم على إنسانية الإنسان، وعلى المجتمع الذى يعيشون فيه؟. الأدب الروائى والقصصى مازال له تأثير مهم على الناس حتى فى عصر الإنترنت والتليفزيون، ومع ذلك فنادرا ما يناقش النقاد أو الدارسون للأدب أثر مضمون، وأسلوب الروايات على الناس. ربما يخافون من أن يؤدى هذا إلى إدخال السياسة والنظرة إلى القيم فى تقويم العمل الأدبى، يخافون من تحمل مسئولية النتائج الخاصة والعامة التى ستترتب على الآراء التى سيقدمون على إبدائها أثناء مناقشتهم للآراء والإتجاهات الواردة فيها. مع ذلك فإنهم بهذا يفسحون الطريق ليقال أى شىء دون أن يعقب عليه أحد. هذا بينما الأعمال الأدبية أحد المصادر المهمة التى تعكس تاريخ المجتمعات، وتطورها، وتصور حياة الشعوب، وصراعات جماعاتها وأفرادها وتُعبر صراحة أو ضمنا عن القناعات السياسية والفكرية لمؤلفيها. الروايات والقصص التى تكتب فى هذه الأيام يتم تأليفها وسط حالة من الفوضى، وجو من التضليل الواسع النطاق، وسط النزاعات والخرافات، والأكاذيب التى تنشرها النظم السائدة ووسائل الإعلام، فى عصر يتسم بالعنف، والحروب، والاستغلال البشع، وبسعى القوى الكبرى الحاكمة نحو نشر فكر، وثقافة تحقق لها الهيمنة على عقول الناس فى مختلف أنحاء العالم وتنشر أكبر قدر من الممكن من الانقسامات والتشظية فى صفوف الشعوب حتى تحافظ على النظم التى تحقق لها مصالحها ونفوذها. فى ظل هذه الظروف أليس من الوارد أن تزدهر أشكال مختلفة وجديدة للواقعية لتصبح من التيارات الأدبية الرائجة فى عصر أحوج ما يكون فيه الناس إلى التعامل مع الواقع وفهمه وقدرة على التعامل مع الأوضاع السائدة التى يعانون منها وتغييرها؟ لماذا انسحبت الواقعية لترقد فى الكواليس بعيدا عن المعترك والإبداع الروائى؟ لماذا هجرها أغلب الكتاب الروائيين فى مصر ليتبنوا أساليب فى الكتابة بعيدة عنها، ظنا منهم ربما أن الواقعية كتيار فى الفن الروائى لا يستطيع التعبيرعن الثراء والتنوع الذى يتسم به العصر. ربما يكون التحليق فى الخيال المتشعب والغريب، أو الغوص فى التفاصيل أسهل من التعبير عن أعمق أعماق، وأوسع آفاق الواقع الذى نعيشه. ربما هو التكاسل عن تحصيل المعرفة، والفهم فى عالم يتزايد تعقيداً، جهل بالواقع لأن دراسة الواقع تتطلب مجهودا متواصلا وصبورا، هروب من التنقيب فى الكنز اللانهائى الذى يحتويه الكون تتكشف أسراره يوما بعد يوم، قصور فى إدراك ما يحيط بنا فى الحياة والاكتفاء بالتركيز على التفاصيل اليومية نجنيها من جلسات المقاهى والتواصل الاجتماعى فى الفيسبوك. قد يكون هو الخضوع للفكر ما بعد الحداثى لثقافة الرأسمالية النيوليبرالة ذات القدرات الإعلامية والثقافية الطاغية بحكم ثرائها وإمكانياتها التكنولوجية فى التعبيرعن فكرها واتجاهاتها الثقافية والقيمية التى تعبر بها عن سعيها لشل قدرة البشر على مقاومة نظامها وتفتيتها إلى اتجاهات مختلفة متناحرة. إن دراسة التفاصيل وتجسيدها يثرى الإبداع الأدبى عن الشاذ، والمريض والمخيف وغير المألوف يُفيد الأدب لأنه دخول فى أعماق وأبعاد الحياة البشرية لكن غابت النظرة التى تربط بين المظاهر وغاب معها الفهم الحقيقى للحياة، للصلات والروابط، والتأثير المتبادل فى عالم زادت تعقيداته، واختفت حقائقه وراء سحب الدخان التى تطلقها قوى تملك امكانيات للتأثير على العقول لم يوجد لها مثيل فى أى عصر من العصور. هناك جهد مضن مطلوب لتحصيل المعرفة بواقع الحياة فى هذا العصر قبل أن يتم صياغته فى لغة أدبية تصل إلى العقل والوجدان. ربما الحقيقة هو أن كتابنا يبدون فى بعض النواحى أوسع خيالا ومعرفة عمن سبقوهم فى هذا العصر، لكن مع ذلك يبدو أن خيالهم عاجز عن إدراك الواقع الثرى والمعقد، والتعبيرعنه بأسلوب إبداعى ملائم لأن هذا يحتاج ليس إلى جهد معرفى فحسب بل أيضا إلى خيال قادر على الإحاطة بالواقع المتغير بسرعة، والمعقد إلى أبعد الحدود السائدة فى ظل العولمة الرأسمالية، إبداع لا يكتفى بحشر الواقع التفصيلى المحدود فى ثوب من الخيال، حتى إن كانت الأحلام وما يدور وراء الطبيعة الظاهرة، حتى إن كانت والكوابيس والهواجس والفانتازيا بل والهستريا والجنون وأشكال الشذوذ المختلفة كلها جزءاً من الواقع الذى نعيشه. التيار الواقعى بما فيها الفانتازيا الواقعية أثرى الأدب الروائى أكثر من أى تيار آخر. الجهل بالواقع نقيض الكتابة الروائية الجيدة، أو على الأقل إفقار لها. الكاتب الروائى الجيد يبذل جهدا مستمرا فى تحصيل المعرفة، فى فهم السياسة والعلوم وغيرها من المجالات التى تؤثر فى تفاصيل حياتنا. اللجوء المتزايد للشاذ والغرائبى، للألاعيب الشكلية المثيرة، لما يسمى بالقصص الكثيرة جدا أو لجاذبية الإيورتيكا لا يصنع فنا روائيا يرتقى بالفكر والإحساس، بالإنسان والوجدان حتى إن كانت هذه الأساليب تضيف للكتابة الروائية تنوعا، وتدغدغ الأحاسيس والعقول التى أصابها الملل. الكاتب الروائى يكتب حتى يقرأه الناس، وإلا لماذا يكتب؟ الكتابة مسئولية، فينبغى أن تكون الرواية مفهومة، ومفيدة لمن يقرأها، أن تدفعه إلى التساؤل والتفكير، أن تزيد معرفته بالمجتمع الذى يعيش فيه، أن تهذب أحاسيسه ووجدانه، أن تجعله أكثر قدرة على التعامل مع الحياة، أكثر غضبا على القبح والظلم، أكثر تماسكا بما هو عادل وجميل، أن توفر له متعة لكن متعة لها معنى. الكتابة التزام نحوالإنسان، نحو تهذيب وجدانه. وتعميق إدراكه. الناس يحتاجون إلى المعرفة، إلى الفهم الواقع وسط التيه المفروض عليهم. ربما لذلك هناك مظاهر تشير إلى ظهور تيار من الواقعية الجديدة فى الأدب والفن، مظاهر مثل ازدهار السيرة الذاتية، والكتابات النسائية، أو الروايات العلمية والقصيدة النثرية، أو الأفلام الروائية الوثائقية، والجرافيتى، أو استخدام اللغة الدارجة والشعبية وكسر الأطر الموسيقية والغنائية السابقة. إنه تيار لم يتبلور بعد لكنه يستحق أن نتنبه إليه، وإلى ما يمكن أن يتولد عنه من تطورات يمكن أن تغير فى الأدب الروائى وأن تعمق تأثيره وأن تطور غيره من مجالات الفن.