ماذا تري عندما تقف في منتصف شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة التونسية، وعينك تخطف نظرة صوب تمثال ابن خلدون (العربي الهيئة) وأخري ناحية المسرح البلدي (الفرنسي المعمار)؟ ماذا تري عبر ظل كاتدرائية تونس الذي يحاصرك ويفترش بقليل من الضعف الرصيف الذي يتسع للمقاهي المتراصة يميناً ويساراً تفوح منها روائح القهوة والشاي الأخضر، وتتجاور مع دور العرض السينمائي التي تمنح من روحها لرصيف يمتد حتي برج الساعة علي رأس الشارع؟ ماذا تري في خطي العابرين لشارع يحمل اسم الرئيس التونسي الأول بعد الاستقلال عن فرنسا، شارع الثورة التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي، وتلتقي معه الشوارع الرئيسية شرقاً وغرباً: روما، الجزائر، باريس، مرسيليا، القاهرة، اليونان، قرطاج، جمال عبد الناصر، محمد الخامس، ابن خلدون؟ تري تونس تصنع الحياة كما تصنع الكعكة الهلالية، الكرواسان (تقول الحواديت أنه صنع احتفالاً بانتصار الفرنسيين بمعركة بلاط الشهداء ضد قوات الأمويين عام 732 بحيث يمثل شكل الهلال الإسلامي، أو أنه ابتكر ابتهاجاً لهزيمة العثمانيين من قبل القوات البولندية عام 1683 خلال حصار فيينا للإشارة إلي الهلال بالعلم العثماني، وفي كل الأحوال هو رمز وطني لفرنسا)، أو كعكة الألف ورقة، الميلفاي (ثلاث طبقات من العجينة المنتفخة، متناوبة مع طبقتين من الكاسترد، أو القشدة المخفوقة أو المربي، والطبقة العلوية مرشوشة بالسكر أو الشيكولاتة)، وهو ميلفاي ليس فقط ك"ميلفاي" نوري بوزيد؛ العنوان الفرنسي لفيلمه "ما نموتش" الذي يرسم صورة لتونس بعد الثورة ويطرح قضية الحجاب والازدواجية في المجتمع التونسي، لكنه الصورة الأكثر قرباً للشخصية التونسية؛ العِرق إفريقي وعربي والطابع مزيج بينهما يضاف إليه الإطار الفرنسي، صورة واقعية بدرجة تحفز الخيال نحو بلاد تسير علي نمش الضوء ما بين أمس فاض بتاريخ ساخن وغد يحمل الكثير من الأسئلة، هي تونس إذن؛ قبل البلاد القديمة وبعدها، تصغي إلي حنين خفي يتملكنا وإلي أسئلتنا عن مصير يغير حاضر يتعبنا، وكلما بحث القلب فينا تأتي الإجابة: تونس. كنت أتدبر كلماتي بحرص عندما جاوبت الكاتب أحمد ممو رئيس نادي القصة في تونس، وهو خلية من خلايا نادي الثقافة أبو القاسم الشابي تم بعثه سنة 1961، ويعتبر من أهم المؤسسات الثقافية الموجودة في تلك الفترة بمدينة تونس، فهو يجمع الأدباء والمثقفين، حين سألني: كيف رأيت الشخصية التونسية؟ وأنا أستفيض في وصف تسامح وألفة أهل تونس واحتفائهم الكبير بضيوفهم، فيما كان ينهشني السؤال الملح عن تزايد الشباب التونسي في انضمامهم إلي "داعش"، ثم أستعيد الإيقاع المختلف في حضور أحمد ممو ورفاقه من الكُتاب والمبدعين الذي عرفني إليهم صديقي الكاتب والباحث عبدالكريم قابوس في جلستهم الأسبوعية من صباح كل أحد في مقهي بالكوليزيه حتي منتصف النهار، حيث تتجاور طاولتهم مع طاولات أطياف أخري تمثل المجتمع التونسي؛ بينما انشغل عقلي بما قالته لي أمينة سائقة الحافلة الضخمة والتي ردت دهشتي التي انفرطت تجاهها " كيف لفتاة نحيلة مثلك أن تقود هذا الأتوبيس؟"، وقالت:" أنا مسئولة عن عائلة كبيرة"؛ فتقودني السيرة والمواويل إلي عزيزة بنت السلطان التي أحبت "الهلالي" يونس، وقبل أن يسحبني شرودي إلي الزناتي خليفة، تسلل صوت سيد مكاوي من الجوار بكلمات بيرم التونسي: عزيزة شابة والله شابة/ شابة وشباب نواظرها تسحر الألباب/ وظفايرها عند الاكعاب ومباسمها خمرة وشراب قمر ليلة عشرة واثنين/ ياصلاة الزين علي عزيزة ياصلاة الزين.