يجب أولا توجيه التحية للكاتب الكبير الراحل إحسان عبد القدوس, الذي استعرت العنوان من روايته الشهيرة علي مقهي في الشارع السياسي.. أما سبب الاستعارة, فهو أن المقاهي جزء لا يتجزأ من الشارع التونسي, ومن ثقافة الشعب التونسي, مثل شقيقه المصري وربما أكثر حيث تنتشر في كل مكان من البلاد, خاصة في شارع الحبيب بورقيبة الرئيسي بالعاصمة والشوارع المحيطة به.. وأغلب تلك المقاهي علي النمط الباريسي, سواء من حيث نوعية وطراز طاولاتها ومقاعدها الأنيقة, أو من حيث احتلالها الرصيف العريض, الذي يبدو أنه صنع واسعا خصيصا ليسع طاولات المقاهي إلي جانب المشاة. تتميز المقاهي التونسية بالنظافة, ولا يمكن أن تقرف من تناول أي شيء عليها, ولذلك فإن أسعارها علي شارع بورقيبة غالية, لكنها في الشوارع الجانبية تهبط إلي النصف تقريبا.. أما في المدينة القديمة, التي تبدأ بعد باب البحر في نهاية بورقيبة, فتنخفض الأسعار إلي الربع أو أقل, لكنها لا تتمتع بنفس القدر من النظافة والخدمة, وبعضها ليس به خدمة علي الإطلاق, حيث يجب عليك أن تدخل وتشتري ما تريد من مشروبات, ثم تحملها وتخرج لتجلس علي طاولة خارجية.. وخلال زيارتي الأخيرة لتونس, لم أكن والناقد السينمائي الكبير الصديق أمير العمري نعرف ذلك, فجلسنا علي الرصيف وانتظرنا طويلا من دون أن يسألنا أحد عما نريد, ثم توسمت في شخص يرتب إحدي الطاولات أنه النادل, فأشرت إليه بنفاد صبر وقلت له علي المطلوب, وعند عودته به جادلته بأنه ناقص, فاضطر الرجل لإبلاغنا بأنه ليس النادل وأنه لا يوجد نادل أصلا, وأنه فعل ذلك خدمة لنا بعد أن فهم أننا غريبان ولا نعرف شيئا, مما وضعنا في حرج عظيم! ويهمني هنا مقاهي شارع الحبيب بورقيبة الغالية, التي كان يدهشني أن أجدها ممتلئة عن آخرها في أيام العمل, وفي وضح النهار, مما دفعني للسؤال والاستفسار, خاصة أن معظم روادها من الشباب الذين من المفترض أنهم في مواقع العمل أو الدراسة في مثل هذه الأوقات.. وكانت الإجابة المتوقعة: البطالة, التي تدفع الشباب في هذه البلاد وفي غيرها للجلوس علي المقاهي.. أما التكلفة المرتفعة, فمقدور عليها بشكل أو بآخر! وبالبحث, تبين أن البطالة لا تزال في تونس عند مستويات مرتفعة رغم أنها كانت من بين الأسباب الرئيسية للثورة التيأطاحت- في41 يناير1102- بنظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. ويبلغ المعدل العام للبطالة في تونس اليوم51% مقابل أكثر من31% في0102 وفق الإحصائيات الرسمية. ويبلغ عدد العاطلين أكثر من ستمائة ألف بينهم نحو042 ألفا من خريجي مؤسسات التعليم العالي, وفق الإحصائيات الرسمية.. علما بأنه يتخرج من جامعات تونس سنويا ستون ألفا, بينهم أعداد ضئيلة تعثر علي عمل يتناسب مع تخصصاتهم الدراسية. وتخصص تونس سنويا نحو02% من موازنتها وحوالي7% من ناتجها المحلي الإجمالي للتعليم بمختلف مراحله, لتكون بذلك من بين دول المنطقة الأكثر إنفاقا علي التعليم. وخلال السنوات الثلاث الأخيرة, تراجعت معدلات النمو الاقتصادي جراء ما شهدته البلاد من اضطرابات أمنية واجتماعية, وأيضا بسبب تواصل حالة الركود الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي الشريك الاقتصادي الأول لتونس, مما فاقم من معدلات البطالة وخصوصا بين خريجي الجامعات. وهناك تعبير شهير جدا يستخدمه الشباب التونسي باستمرار ولابد أن تسمعه منهم عند زيارتهم, وهو: بدنا نخدم, أي نريد أن نعمل بالعامية التونسية.. وكنت قد استغربته قليلا لدي سماعه أول مرة, لكنه أعجبني بعد ذلك, فما أروع خدمة الوطن في أي موقع! وللحديث بقية..