كنت، كجيل بأكمله، في مرحلة الشباب من العمر ومن الكتابة، أزهو لنفسي بأني أكتب، سأكتب، لضرورة، لغاية، من أجل قضية محددة، لثورة! أنا الآن، لا أدري، حقيقة، لماذا أكتب,إلا لأني صرت مجبَرا علي ذلك بدافع أحسه لا يختلف عن تسيير حياتي العادية ساعة بساعة ويوما بيوم. من هنا شقاوة الكتابة إذ تصير مثقال ترجيح لحياتك لا يستقيم لك توازن بدونها! فالإخلاص للرواية يجعلها النوعَ الأدبي الأكثر قدرة علي الإبقاء علي الأمل قائما لدي الإنسان، لأنه عبرها، يجد رجعي صدي الإنسان مثله آتيا من جغرافيا أخري وتاريخ آخر ومن عواطف مشتركة؛ وذلك هو المدهش! وذلك ما يغدو عامل ارتكاز يمنع اختلال التوازن النهائي لدي الكاتب نفسه قبل القارئ. فهل نأخذ، نحن الروائيين العرب، بين حين وآخر، من عمر تجربتنا، مسافة زمنية عن أنفسنا لنتأمل فيها عالمنا الآخر، عالم كتابتنا، الذي يغرّبنا عن الحياة العادية التي يعيشها أي شخص عادي؛ ومن ثمة يحتجزنا كرهائن، فتروح فديتنا للخلاص، كل مرة، هي هذا النص الجديد الذي يُدخلنا، كل مرة، مسافة أخري في يوتوبيانا؟ ولكن! ألا تكون شهادت"نا" غير "سقط متاع" من مقالاتنا في الصحف الورقية والإلكترونية وفي مواقع التواصل، ومن بعض نصوصنا؛ ما دام الأمر، هنا، يعنينا بصفتنا كتابا ليس من حقهم، أخلاقيا، التحدث عن أنفسهم بأنفسهم في نصوصهم؟ ثم! أوَ لا تكون كتابتنا غير أرْشفة لِما يتخلي عنه المؤرخ، لِما لا يصل إليه تحرّيه؛ للغة الأدبية المستعصية المنفلتة المتمردة التي تنزل إلي عمق الابتذال وتصعد إلي ذروة التخييل؟ ذلك، لأن ما نكتبه هو قدْر نأخذه من خامات الواقع نعيد تشكيله ونصوغه بما يبديه هو ذاك الواقع، الذي لا يعدو كونه إسقاطا من الذاكرة؛ فيغدو، لهذا، لدي القارئ، بفعل التخييل، إيهاما بواقع بديل. يقال إن المتعة تتأتي من تقبل القارئ ذلك الإيهام. غير أن القارئ غالبا ما لا يعرف أنه، حين يتعلق الأمر بحرية التعبير الأدبية، ينتصب خوف في داخلنا يمنعنا أن نكشف عن كثير من هواجسنا تجاه السياسي والديني والأخلاقي. فإنه صعبٌ جدا أن تتكلم عن رؤيتك إلي الوجود، كما تتمناها أن تكون. ومكبِّلٌ أيضا أن تكتبها لتُقرأ. فذلك شأن مما يلفّه المحظور والمسكوت عنه. وأنا لا أزعم أني أتجرأ علي خرق ذلك، إلا بمقدار. ففي نفسي، كما غالبية الكتاب العرب، بوحٌ يُنثر في هذا النص أو ذاك مسنَدا إلي هذه الشخصية أو تلك. إنها الرقابة الذاتية في مواجهة تلك التجارب الحياتية التي نعيشها تحت ظل تحفظاتنا، في قاع أسرارنا المظلم. بالمداراة. بهذه الازدواجية التي تطبع خطابنا نحو غيرنا؛ من القراء أنفسهم. ومن معارفنا. وحتي من أصدقائنا. فبرغم رغبتي، لا أستطيع نقل شذرات منها في شكل شهادة، كهذا التي أقدمها، هنا. إني، مثل غيري، مكبوح بتلك الرقابة المتولدة عن ضغط فوقي لا يحس وقعَه علي النفس غيرُ الكاتب في عزلته. إنها حالٌ عامة نحن نتقاسم كذِبَها المتأنق. فكيف لنا، إذاً، أن نكسر من حولنا طوق الرقابة الذي يفرضه تواطؤ المؤسسة الرسمية والتقليدية (السياسية والدينية)، ما دامت الرواية تبغي أن لا نقبل بعالمنا المشكّل بهذه الإكراهات كلها؟ بالنسبة إلي، يصير من الوهم أن يستعرض كاتب عواطفه ونزعته وأسراره وأفكاره الأخري، تجاه السياسي والديني والأخلاقي، فلا يتعرّض وجودُه للخطر. من ثَم، ومهما نحاول خرق المحظورات في هذه الجلسة الحميمة أو في ذلك النقاش علي هامش هذا الملتقي أو ذاك أو خلال حديث مع صديق مؤتمن، فإننا نجد أنفسنا بلا شجاعة كافية لأن نلملم ذلك في كلمات ننقلها إلي العلن في مقالة أو في يوميات أو في مذكرات أو في نص. صحيح، قد نكون تخلصنا كليا أو جزئيا من طوق الانتماء السياسي لتنظيم بعينه لأنه لا يوجد كاتب علي هذه الأرض يكتب خارج نسق أيديولوجي ولكنْ يندر أن يوجد واحد منا ينتمي إلي عائلة عربية أو قبيلة أو مدينة يكون في منأي من ردة فعل متوقعة بكامل عنفها إن هو 'عرّي' عن نفسه؛ نظرا إلي ما لتلك المؤسسات الرسمية والتقليدية من تسلط سياسي وأخلاقي قاهرين. مات كتّاب عرب وفي نفوسهم، كما الذين سيلحقون بهم، غصة البوح المؤجل، لأنهم ولدوا في مجتمع متأخر بأزيد من خمسة قرون عن مجتمعات ولد فيها كتاب نحتوا حرياتِهم نحتا في صخر إكراهات واقعهم. فكان لهم ذلك الفيض من الكتابة السردية والسير ذاتية ومن اليوميات التي تنشأ مع أطفالهم. فأنْ يسجل كاتب عربي مذكراته أو يومياته، بصدق وبلا خوف، وأن ينشر منها، في حياته أو بعد مماته، ما يمكن أن يلصق 'عارا' به أو بعائلته، فذاك يتطلب درجة من الجسارة ومن 'الوقاحة'؛ برغم كونها كتابة لا تدل سوي علي ما يطفو علي سطح بحر من النفاق والزيف تسبح فيه مجتمعات بأكملها. فمن السهولة أن 'نحكي' في شهادة عن مستنقع واقعنا. ولكنه من الصعب أن نرد علي الصدمات النفسية، التي نتلقاها كل لحظة، بكتابة لا ترتشي بالطمع في حيازة ما هو عابر. ولأننا، غالبا، في خلاف، في نزاع، مع ما يحيط بنا، فنحن نقضي ساعات يومنا بهذا السأم من كل شيء، ومن الكآبة التي يسببها لا شيء ملموسا؛ إلي درجة أننا حين نهرب إلي كتاب، فنقرأه، يتملكنا الشعور بأن شيئا منه لم ينطبع فينا. إننا نعيش هذا الشرود الذهني عن زمن كأنه ليس زمننا العربي. إننا غالبا ما نضجر مما نكتبه، هو بعينه! فلعل ما يوجع أكثر أننا لا نُوجد لأنفسنا مساحة أوسع مما حدده لنا مجتمع تعطل فيه العقل. ونتأت فيه أشواك التعصب. واستشري فيه العنف إلي درجة صار معها هو التعبيرَ العالي علي أي لغة أخري. لو 'نحكي' عن هذا العنف الآخر الذي يطال أرواحنا يوميا وكل ساعة فلا نقدر علي التعبير عنه؛ لا في شهاداتنا ولا في مذكراتنا أو في أعمالنا نفسها. فهو آتٍ من هذه القوي التي دحرجت الثقافة والفن والأدب والإبداع الفكري إلي أدني ما أصبح الإنسان العربي يفكر فيه: تأمين البقاء! فكيف، إذاً، نرهن كتابتنا إلي إغراء الصمت علي ما ينخر فينا قناعاتنا ويربك وجودنا! لماذا؟ أخيرا! أليس التفرغ لكتابة الرواية، أو الانشغال، أصلا، بها من دون بقية الانشغالات في الحياة، هو انفصاماً؟ روائي من الجزائر