مبكرا تعرفت علي العالم الإبداعي لخالد السروجي، من خلال قصصه التي حرص، بإيجابية لافتة، علي نشرها بأهم المواقع الأدبية العربية علي الانترنت. لا تحتاج وقتًا لتكتشف أنه صاحب موهبة لامعة تجعله يقبض علي القصة بين حروفه بكل اقتدار وسلاسة، وربما لهذا وصف هو الكتابة القصصية في حوار سابق: القصة صورة مُلحة مُوحية، تدفعك بشكل قهري لكتابتها. في قصصه تفاجئك لحظات إنسانية خاطفة يصقلها السروجي بقلمه ورؤيته ودأبه ليجعلنا نري فيها ما لم نره جيدا من قبل، ولا يمكنني أن أنسي "ابتسامة الوجه الشاحب": الإنسان في مواجهة قدره المحتوم وهي القصة التي نال عن المجموعة التي تحمل اسمها جائزة الدولة التشجيعية عام 2003، أو قصة "الأخضر" أو "الشجرة"، وفيهما يمس برهافة علاقة الإنسان بالطبيعة والكون ! يميل السروجي، في قصص أخري إلي كشف العلل الاجتماعية والوطنية، حيث يسرقون بطولة المحارب في قصة "اللصوص"، أو يتجاهلون قيمته ومعاناته في "الأسير"، وغيرها من قصصه المؤثرة التي قرأتها علي الانترنت وعرفتني بكتابته قبل أن أقتني كتبه؛ وأتصور أن حرصه علي الاستفادة من التكنولوجي جزء من شخصيته المنفتحة التي تمثل سكندريته منبعًا أساسيا لها، وما أن يأتي ذكر أدباء الاسكندرية حتي يكون السروجي في مقدمتهم، وفي مقدمة من تهتم بلقائهم من المبدعين إذا نزلت للاسكندرية. أما اللعبة "الشطرنج" التي حاز فيها بطولات معتبرة، لعبة الحكمة والاحتشاد والذكاء، فرغم كَونه نجا من إدمانها إلا أنها فيما يبدو ساهمت في تشكيل وجدانه ومنحته رافدًا إبداعيًا مضافًا، صارت ميزة يتفرد وحده بها، فقد منحته رواية "الشطرنجي" وقصة "شطرنج" وربما أعمال أخري، ويبقي في الذاكرة: اللاعب الأبيض واللاعب الأسود، والصراع الطويل بينهما؛ وقد وصف السروجي التعلق باللعبة في الرواية في مقطع قصير بليغ: أي سحر موجود بالشطرنج؟ إن من يصاب بداء الشطرنج لا يستطيع فكاكاً منه.. إنه يستحوذ علي الإنسان استحوذاً كاملاً.. خاصة إذا كان موهوباً.. فيتحول إلي الشيء الأساسي في حياة لاعبه.. بل يكاد البعض أن يهب له حياته.. لقد عرفت بعض اللاعبين الموهوبين؛ منهم من ترك حياته الجامعية ليتفرغ له، ومنهم من أهمل أسرته من أجله، ومنهم من أنفق من أقوات أسرته -رغم فقره- في شراء مراجع غالية الثمن، كل ما أعرفه هو أنني أشعر بأنني أمارس حياة كاملة أثناء لعب الشطرنج.. تنطلق خلالها مشاعري وأفكاري لتتجسد من خلال نقلات في أفعال وخطط وروئ بعيدة المدي. وفيما يخصص استعماله اللعبة كتقنية فنية فقد كُتبت دراسات عديدة لأساتذة كبار متخصصين. في استدعائي لإبداعات السروجي يقفز للذهن دراسته للقانون وامتهانه للمحاماة، ولا يمكنني أن أغفل تساؤلًا كثيرا ما يلح عليّ: عن تأثير العمل المهني علي الإبداع، ما يسرقه من إبداعنا وما قد يضيفه، خاصة في تلك المهن التي تستحوذ علي الكثير من ذهن المبدع ووقته ونظرته للأمور، وأظن أن مهنة الدفاع عن المظلومين قد مثلت شيئًا جوهريًا في كتابات السروجي، فالقسم الأكبر من إبداعاته، شيده علي تضفير العام بالخاص، ثم الوطني بالاجتماعي.. فالسرطان ينمو في جسد الأم متزامنا مع نمو الكيان الصهيوني في رواية "طقوس الاحتضار"، بينما الفساد في "الشطرنجي" يلتهم البلد التي لم تبرأ جروحها بعد، جراء الحرب ضد الكيان الصهيوني، ناهيك عن التهام أجهزة القمع للإنسان، من مختلف ألوان الطيف العُمري والاجتماعي والثقافي، في رواية "تحت الأحمر فوق البنفسجي". وربما يكون وراء الشغف بالتقسيم بين الأبيض والأسود هو طبيعة المهنة "المحتقنة" ذاتها، مهنة الدفاع عن مظلومين، ومواجهة ظالمين. السعي للتجديد وخاصة لمزج الواقعي بالفانتازي شديد الوضوح في أعمال السروجي، وفيه جهد كبير مبذول مع حرص الفانتازي علي أن يقوم بخدمة توضيح وبلورة الواقعي المأزوم، لذا تنضح كتاباته بالأسي وربما لا يمكنني أن أحذف مفردة "التشاؤم"، خاصة إذا نظرت لأحد أواخر ما كتبه، جريدة الواقع العربي: 19 يوليو 2015 وكأن السروجي قد كتب يَأسَه ثم رحل: يومًا ما.. وقف التيس يحدق في المرآة، فرأي التيس يحدق في المرآة، هز التيس الرأس.. فهز التيس الرأس، ظن التيس بأن التيس الآخر يتحداه، فهب وثار وسب أباه، نطح التيس التيس فانخلع القرن وشُج الرأس، قال التيس: لا بأس انهزم الرعديد أمام التيس الصنديد. عن خالد السروجي كتب د. هيثم الحاج علي بمجلة الهلال مايو 2013 هؤلاء الكتاب من المرحلة السنية ذاتها ، والذين بدأوا الكتابة القصصية بعد عام 1991 والذين يمكن اعتبارهم جيلًا بدأ تحقيق وجوده بالصورة المطلوبة بداية من عام 2004 حين فاز خالد السروجي بجائزة الدولة في القصة القصيرة عن مجموعته القصصية "ابتسامة الوجه الشاحب". وعن الشطرنجي كتب د. رمضان بسطويسي: الشطرنجي لايعبر عن ذات وحيدة تعاني من مأساة خاصة؛ وإنما يعبر عن حال وطن يقطف ثماره من لم يحارب حروبه ، وإنما من هرب من ساحة المواجهة ، وعاد في عصر الانفتاح ليكون موجودا. فالعجز الذي تعانيه الشخصية الرئيسية هو عجز عام يعانيه الوطن المحاصر من قبل أعداء مثل اسرائيل، وكذلك الفقر والجهل ، وعدم العدالة في توزيع ثروات الوطن. يرحل الكاتب، ودائما تبقي الكتابة. وداعًا خالد السروجي.