تتدرج القصص من تراجع القيم القديمة.. التدين والاستقامة واحترام التراث الثقافي مرورا بالاستسلام لإغراءات الانفتاح واحتقار الإنسان وخيانة الوطن وحتي الموت الفعلي للبطل. ذكريات الحرب تعزف كثيرا علي فكرة أن المحاربين المتقاعدين لو قتلوا في الحرب لكان لموتهم معني أكبر من بقائهم علي قيد الحياة. اعتقال الخطاط في الغربة أسوأ بكثير من اعتقال الفندقي في الوطن.. فقد ينتهي به إلي حكم بالإعدام. حتي الموت يتم فيه التصعيد تدريجيا من الموت بالصدفة كحريق المقهي (البني سويفي) فالموت بسبب الضغط النفسي (المهندس) ثم التعذيب والإعدام (الحلبي). في مصر يتعرض الوجود الإنساني للخطر نتيجة التغيرات الشاملة وبات الحرمان المادي ضاغطا علي كثير من سكانها نحو الهجرة ومع ذلك تظل - مقارنة بالغربة كمكان للموت - حتفظ بقيم الأمان العاطفي وعدم التمييز والثبات النسبي للأخلاق الجنسية وحرية أن يقول المرء ما يشاء علنا. معظم الأبطال بلا أسماء لتأكيد أن فردانية الشخصيات الثابتة لا صلة لها بمحتوي السرد فهي مصممة بدرجة أكبر كحاملة لوظائف معينة. البطل الحقيقي للرواية هو الطبقة الوسطي المصرية.. الرجل البسيط والمواطن العادي في المناطق الحضرية. مهن الشخصيات وملامحها الإنسانية انتقائية وتشخص سماتها المتلازمة قيما مثالية.. الحفاظ علي التراث الثقافي العربي الإسلامي.. وعلي إرث المرحلة الناصرية الحرص علي التعليم كخير مطلق وضمانة من أجل حياة أفضل.. الدفاع عن الأفكار الوطنية.. التماسك الأسري. الأبطال بلا استثناء تقريبا - يتعرضون لحالة طارئة تتحول إلي محنة تعطل فجأة قدرتهم علي القيام بوظيفتهم. رد فعل شخصيات الغيطاني تجاه الوضع الجديد أن تتخلي عن المثل وتهمل دورها وواجباتها الاجتماعية أو تتمسك بالمثل العليا وتحاول الوفاء بالتزاماتها فتفشل وتعيش حالة من الأسي. المعني الكلي للرواية أن رد فعل الشخصيات المتعارض يؤدي إلي نتيجة واحدة انهيار القيم القديمة ووظيفة المعايير. من يتحمل المسئولية عن الانهيار؟ تكمن الإجابة في من هو السارد وماذا يسرد وكيف يسرد.. في دلالات سلبية لبعض الشخوص العوامل يمكن فهمها كعدو للتراث الروحي والأخلاقي والثقافي وحامليه هم المستفيدون من الانفتاح في الداخل كبار رجال الأعمال في الخارج العربي.. الغرب والمستثمرون الأجانب.. الدولة والقيادة السياسية.. الخارج العربي. الراوي يرسم تصورا لعدو ويتشبث عمدا بكل ما هو إيجابي لكي يتحدث عنه بحيث لا يظهر أي شك في مسئوليته. الرواية تبرز بوضوح الإيمان بالقدر لكنه لا ينطلق من الرضا المطلق بل علي العكس تماما.. في معظم القصص مشاهد حاسمة يتوفر فيها للأبطال فرصة تجنب النهاية المأساوية أو تخفيفها.. لكنها لا تهدف إلي إثبات تحملهم جانبا من المسئولية بل توضيح حجم مأساتهم. الأبطال في لحظات الاختيار أصيبوا بضعف شديد نتيجة للمعاناة الناجمة عن طرف خارجي فانكسروا أو لم يجدوا الطرق البديلة مجدية. الأبطال علي أي الأحوال يتصرفون تحت نوع من الإجبار ويسقطون دوما ضحايا لزمن قاهر. خمسة عشر مصيرا يبصرها الغيطاني في رسالته الأخير أُعدم واغتصب ابنه قرة عينه أمام عينيه تنكيلا في تعذيبه نفسيا في الغربة والأول قضي عمره كله حارسا لأثر يمنع عنه أذي البشر حتي بات جزءا من المكان قبة قلاوون لكنه تحول في النهاية إلي تاجر عملة بين الأول والأخير تتدرج المصائر في مستوي الألم ووطأة التغيرات الاجتماعية في زمن السبعينيات عصر الانفتاح.. طبيب يداوي فقراء الحي بأجر رمزي يغادر المهنة الإنسانية إلي تجارة العقارات شاب تفوق في دراسة العلوم السياسية فكان حلم أبيه في أن يصبح دبلوماسيا يمثل مصر في الخارج تحول إلي فندقي يستخدم المدير وسامته في التسرية الجنسية عن الزائرات وأخيرا يدفعه للتسرية عن زائر خليجي.. فيهرب لكنه يعتقل بتهمة ملفقة ثم أربعة من الضباط المتقاعدين فاجأتهم الحياة الجديدة بمتطلباتها وقيمها المختلفة فباتوا عرضة للاستغلال من أصحاب مشاريع العهد الانفتاحي تريدهم واجهات وطنية لأعمال قذرة أحدهم أصر علي المبادئ القديمة فتحول إلي مريض نفسي تحاصره الذكريات وآخر وعده سيد المقاولين بوظيفة مريحة ثم خلا به تقاعد عن العسكرية باختياره ثم أصبح مدربا للغطس يدرب الأجانب بمن فيهم الإسرائيليون الذين كان يحاربهم بعد المحاربين الأربعة تبدأ مصائر مواجهة الموت في الغربة خطاط شاب يهرب من سوء الأحوال إلي دولة الزعيم المفدي فيكون مصدر رزقه كتابة لافتات النفاق ورسم صور تبعث الخوف في قلوب مشاهديها من الزعيم وينتهي به الحال معتقلا غريبا لا أحد يحاول التدخل لفك حبسه وشاب بني سويفي سافر من أجل مساعدة أبويه المعدمين إلي نفس دولة الزعيم المفدي ولم يعد حيا بل جثة متفحمة تاركا وراءه أما تخط بعود من القش في التراب عبث المصير وأبا يتسول ما يقيم أودهما.. مهندس تقلب في الغربة بين دول عربية وأجنبية من أجل مستقبل عياله لكنه لم يعد أبا فعليا بل ممولا شهريا مات والداه في غيابه فلم يقم بواجبه تجاههما كابن بار وأفقده الاغتراب إحساس الأبوة تجاه ابنته البكرية فعذبه أن يطارده هاجس تمنيها جنسيا مات بنزيف داخلي لا سبب مادياً له بل معنوي وعامل زراعي حاصره صاحب عمل معاد للأجانب وقاض منحاز ضدهم قرر الانتقام فانتهي به الحال سجينا في معتقل إيطالي ضربه حريق ومدرسة سافرت في إعارة إلي بلد خليجي لتحسين فرصة زواجها فتملكها الجشع وعادت مهربة للهيروين وشاب أراد الهجرة إلي أوربا بعد تحويشة في بلد خليجي فأوقعه حظه العاثر في العمل بفندق يؤمه الشواذ ثم ضحية الكفيل (قبل الأخير).. ساب علي نفسه وهو مُحتجز بعد أن أنهيت كفالته بلا ذنب فعله وترك امرأته عرضة لأن تشارك سحاقية سريرها لكي توفر له كفيلا بديلا وكان هاجسه أن يكون مصيره كالأخير الذي أعدم واغتصب ابنه أمام عينيه مصائر أشبه في تدرجها المأساوي وتكرارها وتشابهاتها أحيانا بالحركات الموسيقية في لحن الأسي العظيم حسب تعبير شتيفان جوت في دراسته النقدية عن رسالة البصائر في المصائر كأحد الأعمال النموذجية لأدب الانفتاح الذي يرصد التغيرات الاجتماعية الناجمة عن سياسات السادات الاقتصادية في السبعينيات. الآن في 2015 تكتسب هذه القراءة للرواية وغيرها من الأعمال التي اشتملت عليها دراسة جوت أهمية خاصة فهي تدل المتابع لتحولات المجتمع المصري علي بذرة الخلل التي نبتت في السبعينيات وتشعبت وتوحشت عبر عقود لنري نتائجها في مزيد من تحلل القيم الإيجابية للجماعة الإنسانية المصرية لصالح قيم فردية سلبية.. من الأنانية والجشع.. حتي الخيانة. موضوع واحد بتنويعات مختلفة يعرف الراوي كثيرين آخرين تسمح مصائرهم بمادة كافية لفصول أخري لكنه ينهي رسالته عند مصير الحلبي بدعوي الخوف من إصابة القارئ بالملل ادعاء لا يصدقه جوت فما قد يبدو في البداية تتابعا عشوائيا لقصص منفردة تتصاعد كيفما اتفق يخضع من وجهة نظره لمبدأ بنائي يفرض المؤلف منطقه الداخلي هو اتفاقها في الموضوع (الأساسي) أو المعني الإجمالي وتحديدا رصد التغيير والأسي وإلي جانب الإشارة العامة التي تخلقها تعليقات الراوي لتنويعات الموضوع المشترك وإلي جانب أن الراوي مشترك بينها جميعا نجد عنصرا توحيديا آخر هو الإرجاعات الضمنية متمثلة في أن يكون بطل القصة الجديدة شخصية ظهرت علي الهامش في قصة سابقة أو أن تظل نهاية القصة مفتوحة لأن بطلا جديدا يلتقي ببطل قديم بالصدفة فتتقاطع مساراتهما لكن هذه السمات البنائية ليست ثابتة تماما فالمؤلف لا يطبقها بالضرورة في قصص أخري لكن ما يمنع إضافة مزيد من التنويعات هو أن سرد قصة الحلبي قد وصل إلي الذروة فلا يمكن المتابعة بعدها دون كسر البناء العام للعمل. الذروة الكبري القصص المنفردة تنويعة علي نفس اللحن الأساسي لكنها ليست مرتبة عشوائيا بل تتبع مبدأ التصعيد التدريجي والموضوع الذي يشبه في البداية عدودة رثاء عن زوال الوضع الراهن وعدم اليقين بالوجود الدنيوي لا يمثل شيئا فشيئا إضافة جديدة للمحتوي بل ينسج فيه جوانب مريعة بانتظام وتتكشف للغيطاني الاحتمالات المأساوية الكامنة في الآية القرآنية وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ التي صدَّر بها الرواية ويطبق تدريجيا موضوعه بتنويعاته - بوعي أو بغير وعي كذروة كبري. البداية بقصتي حارس الأثر والطبيب حيث تتراجع فقط القيم القديمة (التدين التقليدي الاستقامة الخشوع الديني واحترام التراث الثقافي) ضحية لهجمة السياحة والتجارة في العملة وتستسلم أخلاقيات مهنة الطب لإغراءات مسيرة الانفتاح ثم تظهر قصة الفندقي لحظات احتقار الإنسان وخيانة الوطن وتنتهي باعتقال البطل أي أن جشع شركات الانفتاح يدمر الإمكانيات الفكرية والوطنية للأمة. من خلال ذكريات الحروب تردد مجموعة القصص التالية للمحاربين المتقاعدين تيمة الموت لأول مرة وتعزف كثيرا علي فكرة أن هؤلاء المحاربين لو قتلوا في الحرب لكان لموتهم معني أكبر من بقائهم علي قيد الحياة فلم يعد لفضائلهم في الزمن الجديد أي معني ويتم دفعهم إلي الهامش فيقعون في براثن رجال الأعمال الإجراميين أو يحكم عليهم بالحرمان حتي الموت بلا معني أو كرامة أو يقعون تحت رحمة العالم الجديد لأنهم لم يعودوا قادرين علي إطعام أسرهم. تبدأ مجموعة قصص الغربة التالية بقصة الخطاط والتي تظهر مجددا كيف يضطر الشباب الذكي والموهوب إلي مغادرة البلاد بسبب الحرمان وألاعيب أصحاب مشاريع الانفتاح وتبدأ في وصف ظروف الحياة في ظل نظام ديكتاتوري وتنتهي بالاعتقال ويتضح أن مصيره أسوأ بكثير من الفندقي لأنه قد يرقي إلي حكم بالإعدام. ابتداء من احتمالية الموت المشار إليها تلعب التنويعات علي الموت الفعلي للبطل فيتم التصعيد تدريجيا من الموت عن طريق الصدفة (حريق المقهي في حالة البني سويفي) - الموت بسبب الضغط النفسي (المهندس) - التعذيب والإعدام (الحلبي). بالتوازي مع لحن الموت العظيم يتم دمج موضوعات جانبية وضع الوالدين المعوزين بلا حيلة ضحوا بحياتهم من أجل مستقبل الابن لكنهم فقدوه وفقدوا معه من يمكن أن يرعاهم في آخر زمنهم انهيار الزواج والعائلة بسبب الهجرة تهريب المخدرات كراهية الأجانب وأخيرا تطور لموضوع فرعي خاص الجرائم الجنسية (وحتي هذا يتم فيه أيضا تصعيد تدريجي). المكان بالتوازي مع التصعيد في الذروة - الغربة الشذوذ الجنسي التعذيب الإعدام- يتغير أيضا مسرح الحدث ينتقل من مصر إلي الخارج ومن المحطتين الانتقاليتين في دولة الزعيم المفدي وأوروبا إلي دول الخليج ومن خلال ما يحدث يصبح للمكان (الخارج) خصائص محددة والفرق الجوهري بين الوطن المصري والخارج أن مصر - رغم تعرض الوجود الإنساني فيها للخطر بشكل متزايد نتيجة التغيرات الشاملة ورغم أنها أصبحت بلدا تسقط فيه القيم وأصبح الحرمان المادي ضاغطا بدرجة أكبر تضطر كثيرين من سكانها إلي الهجرة - مازالت - مقارنة مع الغربة كمكان للموت - تحتفظ بقيم أهمها الأمان العاطفي وعدم التمييز والثبات النسبي للأخلاق الجنسية وحرية أن يقول المرء ما يشاء علنا. مع عبور الحدود يصبح وضع المصري مختلفا تماما فهنا لم يعد آمنا علي حياته في دولة الزعيم (أولي مراحل الغربة) يبيت ويطبخ في مكان ما سرا بسبب القوانين الصارمة ويتعرض لحريق يأتي عليه وعلي المكان مثل البني سويفي أو يقع لسبب أو لآخر في براثن جهاز الأمن (مثل الخطاط والمهندس) وفي المرحلة الثانية في أوروبا يعيش بيئة عمل تحول البشر إلي آلات وتصبغ المقيمين هناك بصبغة أوربية (بالأنانية والفردية وحب المال) ويواجه المغترب انعزال سكان البلاد في أجواء حياة بورجوازية خاصة واحتقارهم للأجانب ومعاداة القضاء لهم ويصل الأمر إلي موت المصري في حريق سجن تم الزج به فيه أو الاستسلام للآلام النفسية وفي دول الخليج لا يضطر المصري فقط لمراعاة أهواء كفيله الخليجي بل يتعين عليه أن يخضع لإرادته دون اعتراض وأن يتصرف وفقا لأمنياته ويجد نفسه (كما يوحي النص بقوة) في مكان يتفشي فيه الشذوذ الجنسي بين الرجال والنساء والميل الجنسي نحو الأطفال حيث يتم التسامح مع المواطنين المحليين إذا ارتكبوا جرائم أخلاقية كأنها هفوات بينما يواجه المغترب الأعزل من أي حماية بعقوبة الإعدام عندما يدافع عن نفسه ضد تلك الجرائم. تأملات في ما قبل البناء وما بعده تستند القصص المنفردة الأولي بالفعل إلي مخطط ما قبل وما بعد بحيث تُفهم الرواية بوصفها توثيقا شاملا للتغيرات المعقدة وتشير بدايات القصص إلي ملامح الوضع قبل فترة السبعينيات (الحالة أ) ثم تنتقل إلي وصف ما حدث خلالها (الحالة ب). ما قبل البناء ويهدف الجزء أ من القصة المنفردة إلي رسم وضع أولي يرتكز علي عنصرين جوهريين 1) أن جميع الأبطال - فيما عدا حارس الأثر - بلا أسماء بما يؤكد أن فردانية الشخصيات الثابتة لا صلة لها بمحتوي السرد (وكذلك بلدان الغربة) وهي مصممة بدرجة أكبر كحاملة لوظائف معينة 2) في الأوضاع الانتقالية يتعلق الأمر في جميع الحالات تقريبا بحالات طارئة حيث يتعرض الأبطال لضغوط شديدة. الأبطال كوظيفة اجتماعية ما الوظيفة التي يحققها الأبطال؟ أولا تمثيل للطبقة الوسطي الحضرية وإليها يشير الغيطاني بطرق عدة كأن يسمي أو يصف أحياء معينة يستطيع القارئ من خلالها تحديد الطبقة الاجتماعية وأعمال الأبطال تحدد أيضا انتماءهم الطبقي وما يعبر عنه الراوي بأسلوب النفي في وصفه للمصائر التي سيحكي عنها ليس بينهم ملك ولا رئيس ولا صاحب سلطان يجعلنا نقرر أن البطل الحقيقي للرواية هو الطبقة الوسطي المصرية الرجل البسيط والمواطن العادي في المناطق الحضرية. لكن مهن الشخصيات وملامحها الإنسانية انتقائية جدا حتي أن سماتها المتلازمة - وهذه هي وظيفتها الثانية تشخص أفكارا عظيمة معينة هي 1 - الحفاظ علي التراث الثقافي العربي الإسلامي تظهر مهنة حارس الأثر لأن الغيطاني مولع بعالم القاهرة الإسلامية منذ طفولته حيث قيم جمال العمارة في العصور الوسطي والشعور بالأمن مع القديم والخشوع لله وقدسية المساجد وكذلك الوحدة الاجتماعية للحي وينطبق الأمر نفسه علي الخطاطين (العجوز والشاب) فكلاهما يخدم فنا ينبغي حمايته من الاندثار. 2 - التعليم عند وصف مسار التعليم لأبطال في الرواية يسلط المؤلف الضوء علي عنصرين أولا أن التعليم خير مطلق في قيمته المثالية ومن الناحية العملية أيضا فهو ضمانة أكيدة من أجل حياة أفضل لصالح الفرد والمجتمع وثانيا يتم اختيار الأشخاص بحيث يتطابقون مع هذا المفهوم بطريقة مثالية ويوضحون بوجودهم أن هذا الحلم (الناصري) كان من الممكن جدا أن يتحقق ويمكن إدراك قيمة اليوتوبيا المتجسدة في أن الآباء والأمهات يبذلون قصاري جهدهم لتعليم أبنائهم رغم كل ما يواجهونه من صعوبات والشباب لا يتخلون عن فكرة مواصلة التعليم رغم صعوبة الاختيار بين كسب الرزق أو التوقف عن التعليم. 3 - الوطنية يلوح في رغبة الفرد المتلهفة للتعليم شيء يخدم الأمة بأسرها هو الوطنية وتصبح تلك الشخصيات التي تم إعدادها في الغالب باعتبارها حاملة لقيم أخري مدافعة وداعية باستمرار للأفكار الوطنية فيمثل المحاربون المتقاعدون (الأول والثاني والثالث) الخير المطلق للوطنية في أنقي صورها - إذا جاز التعبير- ويتيح تحليهم بالواجب وشجاعتهم غير المسبوقة وتفانيهم في القضية الوطنية للراوي الفرصة لكي يفرد صفحات كاملة للثناء علي هذه السمات ونسج حكايات إضافية عن مصائر أخري تبرز مخاطر الموت وتسلط الضوء علي الأبطال الذين نجوا من الحرب مثلهم مثل الجنود الذين سقطوا شهداء أثناء الدفاع عن شرف الأمة (). وهذه المثل تقترن بفئات مهنية معينة وتحظي بتقدير خاص وتقدم دعما لحامليها اقتران ينتج عنه صورة الطالب المثالي الموظف المثالي الجندي المثالي وهو ما يرمز إلي مفاهيم النظام الاجتماعي ذات الصلة بالمصلحة العامة ونجد كمجموعة أخيرة المثلالمعايير المتعلقة بالمجال الخاص التي يحقق حاملوها بطريقة مثالية. 4 - الوظائف الاجتماعية كأعضاء في الأسرة (بالمعني الواسع) فنلتقي مرات ب الابن المثالي (الفندقي الخطاط البني سويفي المهندس) والأب المثالي (آباء المذكورين آنفا والمهندس وضحية الكفيل رقم 1 الحلبي) والأم المثالية (خاصة أم البني سويفي) الأخ المثالي (المهندس) والأخت المثالية (أخته) وتكتسب هذه الأنماط مثاليتها بغض النظر عما إذا كانوا يتصرفون في الواقع بشكل مثالي أو أنهم يريدون ذلك لكنهم لا يستطيعون. هذه المثل تُنسب بشكل واضح تماما إلي الطبقة الوسطي - بالإضافة إلي أبناء الريف الذين يلعبون دورا ثانويا في رسالة الغيطاني حاملة القيم المحافظة وشعار الحفاظ علي التراث يشمل نوعين من التراث التراث الثقافي العربي الإسلامي من ناحية وإرث العهد الناصري (التعليم والوطنية) من ناحية أخري. المثل العليا في محنة السمة الثانية التي تميز هذا الوضع أن الأبطال بلا استثناء تقريبا - يتعرضون لحالة طارئة تحدث دائما قبيل منتصف السبعينيات وتتحول إلي محنة تعطل فجأة قدرتهم علي القيام بوظيفتهم السابقة - يري حامي التراث الثقافي المحافظ عليه نفسه محاصرا بانحطاط أخلاقي عام وانحطاط العمارة التي قضي حياته في حراستها (عم عاشور) أو يشعر أنه الشخص الذي لا يريد أن يفقد القديم فيعيش وحيدا (المحارب المتقاعد رقم 2 في جولاته في القاهرة القديمة) أو يموت في سن الشيخوخة (الأسطي الخطاط) ولا يستمر إرث مهنته (الخطاط الشاب) لأن التكنولوجيا الغربية الحديثة حلت محلها واغتصبت مافيا الانفتاح أماكن التجارة القديمة بوسائل غير مشروعة فلا يستطيع جيل الشباب أن يستمر في ممارسة تلك المهنة (الوظيفة) - ويحل الإنتاج الضخم محل الإبداع الفني الأصيل في تحديد ذوق الجماهير أو أن الحفاظ علي الفن الأصيل لا يُكرَّم بالطريقة المناسبة لقيمته في وطنه فيصبح فنا غير مربح لا يوفر لصاحبه ما يكفي عائلته (الحلبي). - نمط المتعلمين من يعلقون الآمال علي التعليم لا يجدون العمل الملائم لمؤهلاتهم ويتعين عليهم الانخراط في أعمال لا علاقة لها بتعليمهم (الفندقي) أو ينتظرون فترة طويلة لأن الدولة أوقفت التوظيف لأجل غير مسمي بسبب الفائض الكبير من الخريجين وهم مجبرون علي البحث عن عمل في مكان آخر (البني سويفي زوجة العامل الزراعي) أو يشعرون نتيجة التزام أخلاقي بضرورة التوقف عن التعليم لأن الأب وحده لا يكسب ما يكفي لإكمال تعليم ابنه (الخطاط). - تمر الشخصيات التي ترمز للوطنية بتجربة مؤلمة حيث لم يعد هناك احتياج لهم (الفندقي الذي كان يطمح أن يُعين دبلوماسيا المحاربون المتقاعدون). - يتعرض الأب رب الأسرة لضغط ثلاثي انخفاض قيمة ما يكسبه فلا يكفي للإنفاق علي الأسرة ويتضاعف عبء مسئوليته عن الأبناء بسبب مخاطر جديدة (تعاطي المخدرات انحطاط الأخلاق الجنسية) والزوجة تحثه علي كسب المزيد من المال للحفاظ علي الوضع الاجتماعي أو لتأمين مستقبل الأطفال أما الشباب المؤهلون للزواج فيعوضون احتياجهم الجنسي بممارسة العادة السرية لأنهم لا يملكون القدرة علي الزواج وقبل أن يفكروا في مستقبلهم عليهم - في كثير من الأحيان أن يساعدوا أبويهم في كسب لقمة العيش. ما بعد البناء في المكون ب من القصص المنفردة نجد نوعين من رد فعل شخصيات الغيطاني تجاه الوضع الجديد 1) أن تتخلي الشخصية عن المثل وتهمل دورها وواجباتها الاجتماعية 2) أو تتمسك بالمثل العليا وتحاول الوفاء بالتزاماتها فتفشل وتعيش حالة من الأسي والمعني الكلي الحاسم للرواية أن هذين النمطين المتعارضين كليا من رد الفعل يؤديان إلي نتيجة واحدة انهيار القيم القديمة ووظيفة المعايير فأتباع الانفتاح يديرون ظهرهم للمثل ويعارضون انحيازات كانوا يؤمنون بها من قبل والشهداء يتمسكون بالمثل بحزم فيضعون أنفسهم في طريق الانفتاح فيكسرهم ويكسر المثل معهم - يستوي الأمر نفسه في تراجع قيم الثقافة العربية الإسلامية عندما يجد حارس الأثر نفسه غير قادر علي منع الانهيار العام أو عندما يتمسك المحارب المتقاعد رقم 2 بالتراث فيجد نفسه مُزاحا إلي الهامش يستوي الأمر أيضا عندما يموت الأسطي الخطاط ومع وفاته يحل ميني ماركت محل دكانه القديم بأساليب غير قانونية أو ينحدر الحال بميراثه (الفني) تدريجيا في يد خليفته الخطاط الشاب (فيعمل بداية في خدمة تاجر مستغل ثم في الدعاية لديكتاتور) وأخيرا ينتهي الحال بحامل هذا التراث في سجن قائد تلك الدولة يستوي الأمر إذا ما تم التخلي عن المهن التقليدية طوعا لصالح تجارة الانفتاح أو - كما هو الحال مع الحلواني الحلبي إذا ما وجدت نهايتها مع إعدامه.. في جميع الأحوال تختفي الفنون القديمة. - نفس الشيء ينطبق علي التعليم سواء شعر الشباب أنفسهم بخيبة الآمال التي علقوها علي التعليم (كالطبيب الذي فضل تجارة العقارات علي الطب والمدرسة التي سافرت إلي الخارج لكي تجمع المال) أو خبت همة أولئك الذين حصلوا علي تعليم بالفعل (لعدم وجود وظائف أو الانتظار في حالة من البطالة لفترات طويلة أو العمل بأجور متواضعة) مرة أخري تتعرض المثل العليا لتأثير الانفتاح. - الوطن يخونه أتباع الانفتاح (علي سبيل المثال مدير الفندق في قصة الفندقي أو رئيس الدولة عندما يسافر إلي القدس) وعندما ينتقل الأبطال الوطنيون إلي التقاعد يُساء استخدامهم في أعمال تجارية غير قانونية وبسبب دفاعهم عن شرف الأمة تحولهم أجهزة الأمن الأجنبية إلي محطمين نفسيا.. وفي كل الحالات لا تجد الوطنية فرصة للبقاء. - الآباء أرباب الأسر إذا لم يغادروا البلد لا يمكنهم توفير نفقات أسرهم وإذا سافروا أصبحوا غرباء لا يستطيعون حماية أطفالهم وفي كلتا الحالتين لا يمكنهم أن يبقوا آباء بالمعني التقليدي للكلمة يتعين عليهم أن يتركوا أبناءهم وهم أحوج إليهم في سن صغيرة فلا تبقي لهم سوي وظيفة تحويل مصروفات المعيشة وعموما تتحلل الأسرة التقليدية أو لا تتأسس الأسرة من الأصل بسبب عدم وجود المال.. أي أن الجزء ب من القصص المنفردة يتضمن مقولة جوهرية التراث (بمكوناته الرئيسية الأربعة) ينهار ويُدمر. قضية الذنب من يتحمل المسئولية عن الانهيار؟ - يبدو الجواب معقدا جدا لأن الغيطاني لا يدع الراوي يقيم الموقف بشكل مباشر بل يصف ويقرر الواقع بحيث يبدو موقفه تأريخيا محايدا لكن وصف الانهيار ليس محايدا تماما كما يدعي الراوي - المؤلف بل يحتوي علي تقييمات تكمن في من هو السارد وماذا يسرد وكيف يسرد فتتجمع في بعض الشخوص العوامل دلالات سلبية يمكننا أن نفهمها كعدو للتراث الروحي والأخلاقي والثقافي وحامليه ويمكننا تقسيمها في عدة مجموعات 1) المستفيدون من الانفتاح في الداخل كبار رجال الأعمال في الخارج العربي ترسم الرواية وجوها مختلفة لأصحاب الأعمال في زمن الانفتاح سماسرة عملة أطباء يديرون عيادات خاصة رجال أعمال ذوو أنشطة متعددة مهربو مخدرات بعبارة أخري هم أغنياء جدد أو طامحون لأن يصبحوا أغنياء جدد تمكنوا عبر العمل في الخارج أو الاستغلال أو الأنشطة الإجرامية من تكوين رأس مال بدءوا به صعودا سريعا. 2) الغرب سلبي دائما فالسياح يطلقون لرغباتهم الجنسية العنان في المساجد والمدير الأمريكي للفندق الفخم لا يبتسم إلا نادرا يضغط باستمرار من أجل زيادة العائدات لكي يسترد المستثمرون الأجانب ما دفعوه بأسرع ما يمكن يعتبر المصريين كسالي ومتقاعسين يبغض البلاد وأهلها والمستشار الأمريكي لشقيق الشيخ لا يبالي بتوجيه اتهامات مريعة للموظف المصري والأمر باحتجازه ومديرة الإعلانات الاسكندنافية التي وقع الفندقي في حبها تتلاعب بمشاعر الشاب المصري الخام بينما يرد اسم كيسنجر ونيكسون حيث تهدف الإشارة إلي أن ظهورهما كان في بداية عصر التغيرات القاتلة وأوروبا مكان يستنزف العمل فيه روح الإنسان فلا يوجد تواصل إنساني ويحدد الاستهلاك شكل الحياة (بعد إغلاق المحلات يبدو كل شيء مشرحة) والعاطلون عن العمل والسكاري يجوبون الشوارع والسكان متعجرفون لا يهتمون بالأجانب و أو معادون لهم. 3) الدولة والقيادة السياسية في مصر يسافر الرئيس إلي القدس ويعقد السلام مع العدو وبذلك يخون القضية العربية - الفلسطينية ويهين الشعب المصري ويتمتع أولئك الذين احتلوا ودمروا الأرض وداسوا الأطفال الأبرياء بدباباتهم أي الإسرائيليين بحماية الحكومة الآن بينما لا يُسمح بتذكر من فقدوا حياتهم في الحرب ضد هذا العدو وتحيل الدولة المحاربين الحقيقيين إلي المعاش لتتخلص منهم وترعي أو تتغاضي عن أنشطة رجال الأعمال والمستفيدين (ضد القانون) من الانفتاح وتنزع في نفس الوقت من خلال التقاعد القسري ووقف التعيين سبل العيش من الجديرين والماهرين ولا تستجيب لصرخات المحتاجين. 4) الخارج العربي في ثلاث تنويعات دولة تستعر فيها الحرب الأهلية حضور عسكري شامل وحرائق متعمدة وسيارات مفخخة ونزوح جماعي للاجئين ودولة الزعيم المفدي - الديكتاتورية الشمولية الفاشية عمليات تفتيش مهينة عند الدخول والخروج وفي كل مكان صور الزعيم بملامح وجهه القاسية ونظرته التي يبدو أنها تريد تفحص كل شيء وكل الناس تقوم سلطته علي القمع والاستبداد وتنتشر الاعتقالات والتصفيات الجسدية وفي المساءات يسود صمت غريب والحياة تخنقها القوانين والأنظمة القمعية والمخبرون يراقبون كل شيء الناس يشيخون هنا مبكرا لأن الخوف يستنزف قوي حياتهم وتلقي العمالة المصرية في هذا البلد معاملة عنصرية مستبدة والأخلاق الجنسية أكثر صرامة مما هي في مصر لكن علي المستوي الظاهري فقط النساء فاسقات لا يحترمن قيمة شرفهن لا يبالين إذا انفضت بكارتهن قبل الزواج لأن الرجال هنا يفضلون الصبيان علي أي حال أما الدولة الخليجية فالرجال رجال أعمال أغنياء أو شواذ جنسيا أو لديهم ميول جنسية نحو الأطفال لكنهم يقدمون أنفسهم كمتدينين يحاولون إخضاع الناس بالمال والهدايا الغالية والمرأة هنا شهوانية مثل المرأة في دولة الزعيم والمواطنون المحليون يعاملون العمالة المصرية معاملة السادة للعبيد والقانون يحمي المواطنين المحليين والمصري بلا حماية قد يختفي في السجن أو يُعدم دون أن يساعده أحد. لا يستطيع القارئ أن يقاوم انطباعا بأن ما يقدم هنا هو اختيارات منحازة عموما - ونمطية إلي حد ما فالرواية تصور الخارج العربي علي وجه الحصر مسرحا لاضطرابات الحرب الأهلية والاستبداد الديكتاتوري والجرائم الجنسية وتصور الغرب كمرتع لكراهية الأجانب وفي حالة رجال الأعمال المصريين والدولة لا توجد صورة متباينة لا شيء نسبي هذه الصورة النمطية هي بوضوح تعبير عن الاستقطاب الشديد (نظيره هو صورة شخصيات حماة التراث الطيبة بدرجة غير عادية) وبذلك يتضح أن الراوي يرسم تصورا لعدو ويبدو وكأن الراوي وهو يتشبث عمدا بكل ما هو إيجابي يتحدث عن هذا العدو بحيث لا يظهر أي شك في مسئوليته. رغم التقييمات الضمنية لا يمكن مساواة الخير والشر في رواية الغيطاني مع البريء والمذنب لأن الراوي حذر دائما من توجيه الاتهامات ولأننا نلقي شخصيات متعددة في الرواية (خاصة الزوجات) لا يشاركون الأبطال معاناتهم أو أن الأبطال أنفسهم يساعدون علي انهيار القيم (مثل عم عاشور العجوز أو الطبيب أو المدرسة) ورغم ذلك يبدي الراوي تعاطفا معهم إلي درجة الإيحاء بأنهم ضحايا أو مجبرون لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا آخر فالزمن لا يدع لهم اختيار آخر زمن يقهر كل شيء لا يشعر بعنفه الشهداء فقط بل أعداء التراث أيضا والأخيرون يتصرفون كما لو كانوا دمي في يده الزمن أو السبعينيات أو إرادة الله (التي يراها الراوي في كل مكان في الرواية) - وهذا ما يفسر المعني العميق لكلمة المصائر في العنوان. هنا نلمح الإيمان بالقدر لكنه لا ينطلق من الرضا المطلق بل علي العكس تماما ولكي ندرك طبيعة هذا الإيمان القدري علينا أن نسأل أولا إذا كان المؤلف لا ينسب للشخصيات مسئولية معينة وهنا نجد دليلين متخفيين داخل النص في معظم القصص المنفردة مقاطع يمكن قراءتها كمشاهد حاسمة يتوخي فيها للأبطال فرصة تجنب النهاية السيئة أو علي الأقل تخفيفها فهل صمم المؤلف هذه المشاهد عامدا بقصد أن ينسب للشخصيات جزءا من المسئولية؟ علي العكس من ذلك نجد تفهما لقرارات الأبطال باختيار تلك المسارات التي ستحكم مصيرهم في النهاية فهم يتصرفون بهذه الطريقة دون غيرها لأنهم في لحظات الاختيار أصيبوا بضعف شديد نتيجة للمعاناة الناجمة عن طرف خارجي فانكسروا أو لأنهم لم يجدوا الطرق البديلة في تلك اللحظة مجدية لكن جميع هذه المقاطع لا تستهدف اتهام الأبطال وتحميلهم جانبا من اللوم بل تستهدف توضيح مأساتهم فهم علي أي الأحوال يتصرفون تحت نوع من الإجبار ويسقطون دوما ضحايا لزمن قاهر وهذا في جميع الحالات ليس في صالح الفكرة التي يرمزون إليها. عن كتاب شهود علي نهاية عصر غانم ومحفوظ وجبير وصنع الله والغيطاني يرصدون انكسار المجتمع المصري بعد 1970 الصادر عن دار نشر كلاوس شفارتس عام 1992 وتصدر ترجمته العربية قريبا عن المركز القومي للترجمة.