حين شعرت أن النهاية علي الأبواب، قررت أن أترك للتاريخ بعض تفاصيل حياتي.. حتي لا تضيع كما ضاع الكثير من أحداث زماننا الهامة. ولدت في بيت عادي لم يكن به إلا نافذة واحدة تطل علي شارع ضيق جدا بالكاد كنت أستطيع - حين كبرت- أن أعبره بالنظر لأسقطه علي صدر بنت الجيران - طائرا جارحا- والتي أبدا لم ترني رغم قرب المسافة وحرارة النظرات. كانت مدرستي الأولي قريبة من بيتنا، في يومي الدراسي الأول تعرفت علي صديقي الأول، كنا نشترك في خصال كثيرة، المريلة التي بالكاد تخفي الجسد، الحذاء الذي تعبره الأصابع بلا خجل، والدموع التي ترفض ترك حضن الأم، جاءت جلستي بجانبه كأن القدر كان يعدنا لذلك الأمر الهام الذي حدث، لكني في حينها لم أنتبه، رغم ذكائي المتقد وعبقريتي التي تفجرت منذ اليوم الأسود الذي انفصلت فيه عن حبل أمي السري، وجدت علي وجهه نفس الدموع فشاركته بأن جعلت صوتي مصاحبا لدموعه، وانتصرنا معا علي المدرسة - أو هكذا اعتقدنا- فذهبنا إلي البيت عند انتهاء اليوم الدراسي. لا تحمل الذاكرة حوادث كثيرة في تلك المرحلة.. فقط.. صفعة علي الوجه من مدرس كرد فعل علي إجابة خاطئة، عصا أو اثنتان وربما ثلاثة من مدرس لتأخري عن بداية اليوم الدراسي، "تزنيب" من ناظر لأني لم أسدد المصروفات، ولم أحصل في الوقت المناسب علي شهادة الفقر، وضحكات مصحوبة بسخرية مُرة من الأصدقاء لأني تبولت علي نفسي في حصة الدين، حين عجزت عن تسميع آيات من الذكر الحكيم، تفنن يومها مدرس الدين في إظهار عذاب رب العالمين.. ولعنات كانت تتخبط في حوائط الفصل لتعود ذ دائما- تصطدم بوجهي حتي أنني حين غادرت المرحلة الابتدائية كانت قد غطت براءة الطفولة المرسومة علي وجهي بعض الغرز والندوب التي لم تفارقه وروحي حتي متّ.. ويبقي فقط، أني في هذه المرحلة لمحتها صورة للبراءة فأحببتها، وحكيت عنها في ليلي، وصرت أغضب من نفسي ولنفسي كلما وجدتها وهي التي تشاغلني طوال الليل في نومي تلاعب الآخرين وتهملني طوال النهار في يقظتي، وفقط.. انسحبت من خيالي فجأة وحل مكانها فراغ كبير.. قد تستغرب حين تعرف أني حتي الآن أضحك من نفسي وأندم وأتمني أن يتحقق المستحيل ونتعارف من جديد. اليوم الذي وقعت فيه الواقعة لبعض الأيام رائحة خاصة.. يومي كان من هذه الأيام.. لم أحبه ولم أحب رائحته.. حين فتحت عيني كانت الشمس تغازلني عبر النافذة الضيقة.. أنا أرفض هذا النوع من الغزل لذلك أغلقت النافذة في وجهها وحاولت أن أستعيد النوم.. لكنه يبدو كمن هرب من نافذتي المفتوحة.. لذلك لم أجد بدا من أن أبدأ يومي.. "لبعض الأيام رائحة خاصة".. لكني في حينها لم أربط بين هذه الرائحة وما سوف يحدث... فقط بعدها بسنوات وأنا أجالس الوحدة والخوف والظلام المحيط تذكرت هذا اليوم وهذه الرائحة فأسفت لأني لم أكن أملك قدرة رؤية كتاب الغيب وصفحاته، ذلك الكتاب الذي ردد دائما اسمه مدرس الدين حين كان يمارس لعبته المفضلة في قراءته علينا.. لنعلم أي مصير أسود سيكون لنا في مستقبلنا البعيد.. فقط خرجت من البيت كما اعتدت أن أفعل آلاف المرات.. سرت في طريقي الذي أحفظه ويحفظني.. مررت بكل من كنت أمر بهم وبه من قبل.. الجديد فقط في هذه المرة هو أن الشوارع كانت مزدحمة بالسكينة.. هدوء لم أره ولم أعتده في الشوارع.. لكني من كثرة ما قابلت في حياتي لم أتعجب وسرت.. فجأة انتبهت علي ضجيج وأصوات صاخبة قادمة من بعيد.. "ربما هو ضجيج الشارع المعتاد واشتباكاته المعتادة تعود إليه".. قلت لنفسي وسرت.. حتي وصلت إليهم أو وصلوا إليّ.. لم أحبهم يوما، ولم يطمئن قلبي لخطواتهم يوما.. لذلك كنت دائما ما أترك لهم منتصف الطريق وأكتفي بالاحتماء بالحائط والتسلل هربا عبر شقوقه.. لكني في يومي هذا لم أجد منفذا أو حائطا فتوقفت والتفت خلفي.. كانت الشوارع ماتزال فارغة.. هل أعود من حيث جئت؟.. هل أكتفي بهذا القدر من يومي وأغادره في انتظار غد آخر ويوم جديد؟.. لم يمهلني القدر .. فقد لمحت الجانب الآخر وهو يمتلئ فجأة.. كأنهم هبطوا من السماء.. لم يكونوا ملائكة بثياب بيضاء وأجنحة، ولم يكن لهم سلوك وتصرفات الشياطين وعبثهم.. لكنهم تواجهوا.. كنت أنا الأقرب فحاولت الفرار مما توقعت حدوثه.. لكن المنفذ كان مغلقا والقدر يعد للأمر عدته.. "لا مهرب لك اليوم".. "لامهرب لكم".. وبدأ الاشتباك. يوم من تاريخ موازِ تذكر أنه لم يكن له أب ليعرفه.. أنه تربي في حضن أم لا تجد طعامهما بسهولة.. تذكر أنه حقق معه وهو بعد طفل.. وأنها اشارت إليه.. فلم يجد بُدا وهو بعد الرضيع من أن يقول لهم: لم أفعل، ولكني أحمل الأسف في داخلي شعلة أبدا لا تنطفئ.. ضُرب وسُحل وعُلق علي صليب الأيام حتي نزف كرامته وكرامتها.. شرفه وشرفها.. لكنه في النهاية أوصلها إلي قبرها وصعد إلي سمائه حيث كان يظن الأمان. الواقعة كانت الفوضي.. كأنه يوم القيامة والكل يبحث عن النجاة.. "لا منفذ لك".. "لا منفذ لكم".. تصاف الفريقان.. أنا المحايد بينهما.. تمنيت فقط أن أغادر هذا الموقف سالما مسالما.. الحجر الأول فقط هو ما لمحته.. قنبلة الدخان الأولي فقط هي ما رأيتها.. قادتني خطواتي العمياء إلي التخبط والوقوع أكثر من مرة.. وال... وصف سابق للحادث "ويكون أن الهارب من صوت الرعب يسقط في الحفرة، والصاعد من وسط الحفرة يؤخذ بالفخ، لأن ميازيب من العلاء انفتحت، وأسس الأرض تزلزلت، انسحقت الأرض انسحاقا، تشققت الأرض تشققا، تزعزعت الأرض تزعزعا، ترنحت الأرض ترنحا كالسكران، وتدلدلت كالعرزال، وثقل عليها ذنبها فسقطت ولا تعود تقوم". عودة للواقعة هناك عاودني الحلم القديم، هي بفستانها الأبيض الذي دائما ما حلمت بها داخله، ضحكتها التي تفيض كالنهار فتدهن الدنيا وتبقيها ناصعة، خطواتها التي تدغدغ وجه الأرض فتنشر البهجة في أرجائها.. أراها تمد لي اليد، تشدني، تدفعني بعيدا عن الغمام الزاحف، كانت قدرتي علي تحريك الجسد معدومة، رفعتني علي يديها وسارت، كانت رائحتها تملأ أنفي وتطرد روائح الغازات والدخان.. أسندت رأسي علي صدرها وانتشيت. يوم موازِ ارتطم وجهه بشئ ما.. كان هو يبكي.. تذكره وهو يقطع طريق الآلام مسحوقا بالوحدة.. ليس الألم هو الوصف الصحيح، فليس هذا ألما، وليس هذا هو العذاب.. خُلعت ملابسه، مُزقت أمامه، ضربات السياط حولت الجلد لقطع من القماش مُزق أمامه، اللحم المفروم - كأن سياراتهم مرت عليه - سكاكينهم أخذت منه ما يكفي كي يكون طعاما لكلابهم، الصليب علي كتفه أثقل من ذنوبه، السباب يتناثر كذباب حول طبق أصبح خاليا من الطعام، ليس الاسم مواكبا للوصف.. "كنت أتمني أن ينتهي الطريق، لكني أعلم أن في نهايته سيبدأ علي الصليب عذابي الحقيقي وموتي الذي لا يأتي أبدا". عودة للواقعة رغم أني لم استطع أن أرفع الوجه لأعلي إلا أني لمحت القادم إليّ عسكري هزيل مزقته الأيام كما مزقتني من قبل- يرفع عصاته ويهبط بها باتجاهي، لا أعرف لماذا استعدت صورته الآن بهذه المريلة التي بالكاد تخفي الجسد، الحذاء الذي تعبره الأصابع بلا خجل.. استعدت فجأة قدرتي علي الحركة.. فأبعدت الرأس عن العصا.. لكنها اصطدمت بالذراع فشعرت كأن سكينا قد قطعته، فصلته عن الجسد، وترنحت تحت تأثير الضربة، فاصطدمت من جديد بالأرض، هذه المرة لم أر وجه من ضربني من جديد.. ولم أحاول أن أرفع الرأس.. فقد غلبني ضعفي واستسلمت للضربات.. فقط شعرت أني أقف من جديد أمام مدرس الدين، وأني من جديد أستعيد سنوات تمنيت أن لا أعيشها وأن تنتهي.. يوم موازٍ بدأت المسامير في اختراق الجلد واللحم والعظام، وصلت حتي سُمع دقاتها في الخشب، فقدت يده القدرة علي الحركة، لم يعد الصليب سوي جزء لا ينفصل من الجسد المعلق.. الألم لا يمكن أن يكون هو الوصف الصحيح لما يشعر به.. إن جهنم تخرج من كفّتي يديه، من قدميه.. الشوك المرشوق في الرأس يصرخ بصوت عالٍ، يرمي طبلة الأذن بآلاف من الحجارة تنتقل كلها إلي عقله كلمات.. عودة للواقعة حين استعدت وعيي من جديد كنت ملقي فوق القمامة.. وجهي مغطي بالدم، لم أعرف هل هو من إصابة فيّ، أم من الجثث التي تثقل علي بدني وأشعر بدفئها عليه، حاولت أن أحرك جسدي ونجحت لكني في محاولتي أسقطت العديد من الجثامين الساكنة فوقي... استطعت أن أنقلب علي وجهي فلمحت نصف سماء فقط وبعض الوجوه البعيدة تختفي خلفها تنظر لي وتشير أن أستعد للصعود.. هززت الرأس، فتساقطت الوجوه واستعدت جزءا جديدا من الوعي مصحوبا بجزء جديد من القدرة علي الحركة وجزء محدود من الألم.. حاولت الجلوس لكني فشلت.. هذه المرة تفجر الألم من جسدي.. شعرت بالعظام تغوص في لحمي.. فتوقفت عن المحاولة تماما، وعدت من جديد إلي غيبوبتي. يوم موازٍ نَظر إلي من يجاوره علي الصليب.. لصان جريمتهما قادتهما إلي هذا المصير، أما هو فقد كان ما كتب عليه هو ما قاده إلي صليبه.. لذلك حين أشار أحدهما باتجاهه وطالبه بالفعل.. صمت.. "هو في الأعلي يَري ويَسمع ويُقدر ويَعرف متي يكون الفعل.. أما أنا فمجرد حجر أَلقي به علي الأرض ولا يستطيع الارتفاع إلا باختلال القانون".. صَرخ فيه.. "أنْ افعل.." لكنه للحظة ظن أنه مثله مُعلقا هو الآخر علي صليب كتابه المحفوظ، وأنه لا مهرب لهُ .. لا مهرب لي.. فاستسلم للقدر وصرخ فأتي ليل أشد سوادا من ليل صاحبه الملقي فوق القمامة. عودة إلي الواقعة حين فتحت عيني هذه المرة لم أر.. كان الهدوء من حولي يسود.. الهواء له رائحة مختلفة، وطعم مختلف.. حاولت تحريك يدي.. فشلت.. شعرت أني معلق علي صليب.. اخرجت صوتي صارخا.. انتبه منْ حولي للصوت المبحوح.. مد يده شخص ما إلي يدي... مسدها بهدوء.. واقترب من أذني التي مازالت مغلقة بالحجارة.. "حمد الله علي سلامتك"..