هناك ثلاث مكتبات تُعجبني علي الأقل.ثلاث مكتبات تغوص في الميتولوجيا و تُعلن عن وجودها داخل مخيلتي، "مكتبة بابل" التي خلدها خورخي بورخيس في إحدي أجمل محكياته ،و جعلها لانهائية تمتد امتداد المرايا المبثوثة فيها و تشتمل علي كافة الكتب و بكل لُغات العالم ، كتب نفيسة و كتب غير نافعة ،كتب علنية و كتب سرية ، و "مكتبة شهرزاد" التي كتب عنها عبد الفتاح كيليطو فصلا في كتابه "العين و الإبرة" ،وهي عبارة عن خزانة للكتب النفيسة استفادت منها شهرزاد كثيرا و استمدت منها حكاياتها التي أنقذت بها حياتها و حياة بني جنسها من النساء ، و استطاعت بواسطتها شفاء شهريار من عُقدته الرهيبة التي تكونت عنده حين رأي زوجته الأولي ، التي أغفل سارد "ألف ليلة و ليلة" عن ذكر اسمها عنوة ، تخونه وتحتفي بخيانتها له مع عشرين جارية من جواريها و عشرين عبدا من عبيده في احتفال جنسي مثير، و مكتبة أبي السي عبد الكبير محقق التي لا يرد ذكرها في أي كتاب و لا يتم الحديث عنها أبدا لأنها مكتبة صغيرة جدا كانت عبارة عن غرفة توجد بسطح بيتنا القديم في حي سباتة بمدينة الدار البيضاء . هي مكتبة شهيرة بالنسبة لي و هي مكتبة ميتولوجية بكل المعاني . فيها قرأت معظم السير الشعبية بدءا من سيرة "سيف بن ذي يزن" و مرورا بسيرة "عنترة بن شداد" و سيرة "حمزة البهلوان" و سيرة "الأميرة ذات الهمة" و ليس انتهاء بسيرة " الظاهر بيبرس " و غيره من الأبطال الذين حولتهم المخيلة الشعبية العربية إلي رجال خارقين للعادة و إلي أبطال أسطوريين أو علي الأقل يقفون علي مشارف الأسطورة . في هذه المكتبة التي حوّلها أيضا موت الأب، صاحبها، إلي مكتبة سحرية تستمد سحرها من الغياب الفعلي لمالكها الأصلي، و من تراكم الكتب فيها بشكل يوحي بالكثرة، و يجعل عملية البحث فيها عن كتاب بعينه لا يمكن أن تحدث بالسهولة المرجوة. فأن تبحث عن كتاب معين فيها فهذا يعني أنك ستجد كتبا في الطريق إليه تُنسيك عملية البحث عنه و تدفع بك إلي قراءتها هي بدلا عنه ، وهو ما يجعل منك تظل حبيس سحر هذه المكتبة و سحر الكتب المتراكمة فيها التي يخيل إليك أنها تزداد يوما بعد يوم رغم علمك الأكيد بأن لا أحد قد أصبح يُزودها بمزيد من الكتب ، فالذي كان يفعل ذلك قد وراه الثري و غاص في اللانهائي . في هذه المكتبة قرأت كل الكتب التي شكلت وعيي الأول و ساهمت في توجيه فكري و تشكيل ذوقي الفني. فيها قرأت كل الأساطير من بابل إلي أثينا و من سومر إلي أور ،و من غرناطة إلي باريس ، و من طروادة إلي إسبرطة . فيها قرأت "الإلياذة" و فيها قرأت "الأوديسة" و فيها قرأت عن طنجيس و أعمدة هرقل و عن شمشون و دليلة و عن مزامير أورفيوس و عن صخرة سيزيف و عن تحليق إيكاروس بأجنحة من شمع و انبعاث الفينق من الرماد . وفيها كتبت أولي حكاياتي شعرا و نثرا ، فالحكايات توجد في كل الأجناس الأدبية كما يعلن رولان بارث .في هذه المكتبة المحققية التي كان بابها مفتوحا علي السماء و كانت الحمائم الزاجلة منها و المطوقة تحوم حولها ،تكونت شخصيتي الثقافية . كنت أقرأ فيها باستمرار و من حين لآخر أخرج منها لأتفقد الحمائم بالمأكل و المشرب و أستمع إلي هديلها الجميل و أستمتع بطيرانها الجماعي حينا و الفردي حينا آخر. و حين فرّقت السبل بيني و بين هذه المكتبة ازداد حبها في قلبي و شكلتُ تعويضا عنها مكتبات كثيرة علي منوالها في كل مكان كنت أحلّ به و أقضي فيها زمنا معينا، فللمكتبة سحر في نفسي و للكتب محبة لا تقدر بثمن. طبعا أيها القارئ ، يا شبيهي، أعرف أنك تمتلك مكتبتك الخاصة و أعرف أنها قد تشكل مكتبة أسطورية بالنسبة إليك، فالكتب الموجودة فيها تحمل بين طياتها ذكريات خاصة بك وحدك ، و أعرف أنك حين ستقرأ ما أكتب الآن ،ستقول يا ليته فعل كذا بدل كذا ، و ياليته توسع في هذه الفكرة بالذات دون غيرها و يا ليته لو اقتصر فقط علي ذكر المكتبتين الأسطوريتين "مكتبة بابل" و "مكتبة شهرزاد" دون أن يشير إلي مكتبة أبيه . و لكنّي سأقول لك بأنك كنت تعرف المكتبتين الأوليين و أنك لم تكن تعرف المكتبة الثالثة، مكتبة أبي، تلك المكتبة التي شكلت أسطورة بالنسبة لي، لأنني قرأتُ فيها كتبا جميلة و رائعة، ويكفي أنني قد قرأت فيها لأول مرة كتاب "ألف ليلة و ليلة" في نسخة نادرة ، كاملة و غير منقحة ، و لم أمت كما تدعي الأسطورة الخاصة بها. الآن قد تحولت المكتبة عندي و عند الكثير من الكتاب في العالم إلي مكتبة سيّارة ، بمعني أن الكتب أصبحت ترافقني في حلي و ترحالي ، و بدل أن أحمل واحدا منها في يدي أو حتي عشرة داخل حقيبتي كما كنت أفعل في السابق و طبعا كما كان يفعل غيري ، فقد أصبحتُ أحمل مكتبة داخل سيارتي . طبعا أقصد بأنني قد حوّلت الجانب الخلفي منها إلي مكتبة صغيرة أضع فيها كل الكتب التي أرغب في قراءتها أو الكتابة عنها ، وهو أمر ساعدني كثيرا و ما يزال يُساعدني علي مواصلة فعل القراءة كما أحب و أشتهي خصوصا و أنني ما زلتُ كما كنتُ مولعا بقراءة الكتب الورقية و أفضلها علي الكتب الإلكترونية التي قد أعفت سواي من تشييد المكتبة سواء الثابتة منها أو المتحركة .