لا يكف الناشرون في الغرب عن استحلاب وعصر كل ظاهرة جديدة واستقطابها كي تكون سلاحاً في يد النشر الورقي بدلاً من أن تكون سلاحاً ضده وسبباً في سحب البساط من تحت قدميه خلال حربه من أجل البقاء. حين انتشر الإنترنت وبدا المحتوي الإلكتروني كخطر مهدِّد للنشر التقليدي، سرعان ما تنافست دور النشر الكبري في ابتكار الطرق الأمثل للاستفادة منه وتطويعه، أصبح الكتاب الإلكتروني شكلاً لا غني عنه من أشكال النشر التي تتبعها الدور التقليدية، وتم تطويع الإنترنت كوسيط لا يُنافَس في التوزيع والدعاية، لدرجة نُظِر معها لموقع مثل "أمازون" في بداياته كالمخلِّص أو الساحر القادر علي إنقاذ صناعة الكتاب بعصاه السحرية. ومؤخراً بدا الFan Fiction، كآخر الصرعات التي تسعي دور النشر التقليدي لعصرها والاستفادة منها حتي آخر قطرة. والمقصود بال Fan Fiction، التخييل السردي الذي يكتبه المعجبون بعمل أدبي أو فني ما أو بشخصية عامة، ويتمحور حول عالم هذا العمل أو إحدي شخصياته، أو يحوِّل الشخصية العامة إلي شخصية فنية ويكون ال Fan Fiction موجهاً في العادة إلي تجمعات وروابط المعجبين بالعمل الناجح أو الشخصية الشهيرة علي الإنترنت، وفي الغالب يكون "المؤلف/ المعجب" منتمياً لهذه الرابطة. للاختصار والتبسيط، سوف أشير إلي ال Fan Fiction فيما يلي ب"أدب المعجبين"، لأنه نابع من المعجبين وموجه لهم. عبر "أدب المعجبين" أصبح للجماهير والمعجبين صوت، وصار بإمكانهم التلاعب بشخصية مفضلة ووضعها في سياقات تأليفية جديدة، أو اختلاق عالم تخييلي يجمعهم بنجمهم المحبوب أو فرقتهم الغنائية المفضلة. لا يُعد المصطلح جديداً، إذ سبق له الظهور المتفرق منذ ثلاثينيات القرن العشرين، لكن "أدب المعجبين" لم يتحول إلي ظاهرة عالمية يتابعها الملايين إلّا مع انتشار الإنترنت. قد يُذكِّر هذا النمط الكتابي البعض ب"الكتابة علي الكتابة" وفقاً للمفهوم الما بعد حداثي، وقد يدفع آخرون للتساؤل عن الفرق بينه وبين الاستلهام الأدبي المشروع، الحدود هنا، كعادة كل ما يخص الإبداع، مموهة وغير فاصلة، وبالتالي لا إجابة محددة ونهائية. لكن من خلال عدد من نصوص "أدب المعجبين" التي ألقيت نظرة عليها، يمكنني القول إن مساحة الخلق والابتكار فيها تكاد تكون منعدمة، ليس الأمر فقط أن النصوص المنتمية لهذا النوع تقلد العمل الأصلي بلا ابتكار، بل أنها أيضا تقلد بعضها البعض، وتكاد موضوعاتها تكون نسخاً مكرورة، ليجد القارئ نفسه تائهاً في غابة من التشابه والتكرار.
تحظي فرقة One Direction البريطانية بشعبية خاصة في نصوص "أدب المعجبين" المتمحورة حول شخصيات عامة لا أعمال أدبية وفنية، بين روابط وتجمعات المعجبين بالفرقة الغنائية الشهيرة، والمقدرة بعشرات الملايين، تنتشر نصوص "أدب معجبين" تدور حول أعضاء الفرقة؛ تتخيل حيواتهم وترسم شخصياتهم محولةً إياهم لشخصيات فنية في سياق خفيف وبلغة غير أدبية وتيمات متكررة حد الملل، فالبطلة المراهقة في الغالب تتقاطع حياتها مع حياة أعضاء الفرقة إما عن طريق أن يختطفوها! أو يتبنوها! أو تعمل كجليسة لهم! في سلسلة لا تنتهي من المصادفات وسوء الفهم. لا مساحة للابتكار في الغالب، حتي أسماء البطلات متكررة، كما تكاد الجمل الحوارية والمواقف لا تختلف من نص لآخر، وتُستنسخ سمات كل عضو من أعضاء الفرقة الغنائية فهاري هو المغازل، لويس يتصرف كطفل، زين الغامض المحبوب، نايل لا يكف عن الأكل، ووليام الناضج المسئول عن زملائه في الفرقة. النصوص المكتوبة بعد انفصال زين مالك عن الفرقة، لا تعترف بهذا الانفصال الذي أحزن ملايين المعجبين بOne Direction ، مؤلفو أعمال "أدب المعجبين" المتمحورة حول الفرقة الغنائية الشهيرة يخترعون عالماً مثالياً خالياً من كل ما قد يعكر مزاج قرائهم الشغوفين مثلهم بالنجوم الخمسة المحبوبين. الشغف مفردة مفتاحية في "أدب المعجبين" فهم يكتبون انطلاقاً منه موجهين نصوصهم لتجمعات وروابط تشاركهم فيه. تجمعات تتغاضي عن ثغرات النصوص وعيوبها حباً في المكتوب عنهم. واللافت أنه كلما ازدادت خفة العمل حظي بعدد قراءات أكبر.
في مجتمع "أدب المعجبين" الافتراضي تختفي المسافة بين المؤلف وقرائه؛ كثير من القراء يتشجعون ويجربون حظهم في كتابة موسومة بالتقليد والاستنساخ. في المواقع التي تنشر هذه الكتابات كثيراً ما تجد "مؤلفة" تعبر عن دهشتها من أن عملها حاز ملايين القراءات وهو ما لم تتخيله حين تجرأت علي الكتابة. وقد نصادف "مؤلفة" أخري تبتز رواد الموقع عاطفياً بإعلانها التوقف عن إكمال عمل نشرت منه حلقات عدة لأنها محبطة من قلة التفاعل مع ما تكتبه، حيث لا يحظي بعدد كافٍ من القراءات والتصويتات. وفي هذه الحالة تنهال تعليقات مشجعة تدعوها للتغلب علي الإحباط ومواصلة الكتابة والنشر، ويصل التشجيع أحيانا حد الميلودراما أو الهستيريا بالتوسل إليها لأنها مصدر إلهام لقراء ومتابعين صامتين.
لسنوات عديدة مثَّل "أدب المعجبين" مصدر إزعاج لدور النشر، إذ رأوا في منتجيه مقلدين رديئين لا يحترمون حقوق الملكية الفكرية، فكيف تغيرت الأحوال وأصبح هذا النوع من الكتابات منقذاً محتملاً للنشر التقليدي؟! في مقال له، منشور في "ذا دايلي بيست"، يري أوليفر جونز أن هذا التغير الدراماتيكي يرجع في معظمه إلي النجاح المدوي لرواية إل جيمس الإيروتيكية "خمسون ظلاً لجراي"، التي بدأت كحلقات مسلسلة تنتمي ل"أدب المعجبين" بعنوان "سيد الكون"، وتدور حول شخصيتي "إدوارد" و"بيلا" من سلسلة Twilight لستيفاني ماير، نشرت جيمس حلقاتها هذه علي موقع Fanfiction.net وما إن بدأت تحظي بجماهيرية لافتة، حتي سحبتها جيمس من الموقع وغيرت أسماء الشخصيات وباعتها ككتاب إلكتروني لدار نشر أسترالية صغيرة. وفي النهاية وصلت "خمسون ظلاً لجراي" إلي فنِتدج بوكس »إصدار تابع لراندوم هاوس«"، وحققت أجزاؤها الأربعة والفيلم المأخوذ عنها نجاحاً غير مسبوق. اهتمام دور النشر بأدب المعجبين عبرت عنه الناشرة جينيفر بيرجستروم (جاليري بوكس) بقولها: "أصبح أدب المعجبين جزءاً من متن ما ننشر!" وأشار جونز في مقاله إلي أن ج. ك. رولينج مؤلفة هاري بوتر، وستيفاني ماير كاتبة Twilight من أكثر الأدباء سماحاً لكتاب آخرين باستعارة شخصيات من أعمالهم.
بعض كتاب "أدب المعجبين" يفضلون استخدام شخصيات فنية لا تخضع لقانون حماية حقوق الملكية الفكرية، وفي هذا السياق تحظي أعمال جين أوستن بجاذبية عالية، فهناك عدد كبير من الأعمال المستلهمة من أعمال أوستن، وأشهر هذه الأعمال بعنوان "خمسون ظلاً للسيد دارسي" لوليم كودبيس، وكما يتضح من العنوان فالكتاب محكاة ساخرة لكل من "كبرياء وتحامل" لأوستن و"خمسون ظلاً لجراي" لجيمس، ولنا أن نتخيل كيف تلاعب كودبيس بقصة الحب الرومانسية المحافظة بين إليزابيث بينيت والسيد دارسي في رواية جين أوستن ليضعها في سياق إيروتيكي يستلهم عالم "جراي" ويسخر منه في آن! يتعالي كثيرون علي "أدب المعجبين" ويتحفظون علي حماس دور النشر المفاجي له ويرون فيه تهديداً للأدب، في حين ينشغل آخرون بتفحص علاقته بالأدب المعترف به، ميجان ميلكس من الفئة الأخيرة، إذ تحاول التأصيل لجذوره السابقة علي ظهور الإنترنت والبحث عما يربطه بالأدب، ومؤكدة أن الفصل بين الطرفين غير تام أو نهائي، والاختلافات الأساسية تتمثل في أن "كلا منهما ينتظم حول تجمعات مختلفة بأكواد مختلفة، وطرق التوزيع مختلفة." وتري ميلكس أن " بعض العداء ل"خمسون ظلاً لجراي" منبعه إحساس بأن "أدب المعجبين" يجب أن يظل كذلك: وألّا يُجَّر إلي عالم الأدب الصحيح والشرعية التأليفية التي من المفترض به أن يمنحها." وقد يكون كلامها صحيحاً بشكل جزئي، لكن الهجوم علي "خمسون ظلاً لجراي" ربما لم يكن ليقل لو نُشِرت منذ البداية في دار نشر كبري بعيداً عن تجمعات ومواقع "أدب المعجبين"، غير أن السؤال المهم هو هل كانت "جراي" ستحقق النجاح نفسه في هذه الحالة؟ أم أن نشرها مدعومة بملايين القراءات الأولي علي الإنترنت قد عبَّد الطريق أمامها؟. حين تُتهم دور النشر بأن حماسها للكتابات الخفيفة ذو تأثير مدمر علي الأدب الجاد، يكون ردها الجاهز، أنه لولا المليارات التي تدرها عليها هذه الكتابات لما كان بإمكانها المغامرة بنشر الأعمال التجريبية الجادة. وهو رأي يشاركها فيه كُتَّاب عديدون بعيداً عن تقييمهم الفني للأدب الخفيف. إذ تري جويس كارول أوتس أن"الكتاب والشعراء الجادون ربما ينتقدون بسخرية أعمال ال"بيست سيللر"، لكن هذه الأعمال هي التي تُمكِّن المكتبات، التي تبيع دواوين الشعر، من البقاء والصمود."