فى كل مرحلة سياسية جديدة تدخل عليها مصر، يتجدد الجدل حول بناء مؤسسات الدولة والتغيير الجذرى فى سبل الإدارة والتخطيط المستقبلى للبلاد، ويضع المصريون الأمل فى أن يخرج الجدل هذه المرة من حيز الكلام إلى التنفيذ، وذلك لوجود رئيس جديد منتخب بإرادة شعبية هو الدكتور محمد مرسى، وأطرح هذه الرؤية عليه أملا فى أن تعبر مصر إلى مرحلة جديدة. هناك العديد من الخطوط الرئيسية التى لابد أن تطبق وبأسرع وقت ممكن لإحداث ثورة فى الإدارة، وزيادة كفاءة العاملين فى أجهزة الدولة، وبالرغم من أن هذه المتطلبات صعبة ومتشعبة وتحتاج لدراسات تفصيلية تقع تحت عنوان واحد هو «الإدارة السليمة»، إلا أن تحديد عناصرها يقربنا من الهدف الصحيح ويمكن حصرها على النحو التالى: الإصلاح الحكومى لا يطبق فقط على الوظائف العليا كالوزير ونوابه، وإنما يشمل كل الوظائف، وعلى الرغم من أن الإدارة العليا هى المسؤولة عن ضمان الإنتاج والأداء وخلق البيئة السليمة للعمل فإن الأداء الوظيفى على كل المستويات هو العامل الرئيسى لتحقيق النجاح. على كل وزارة أو هيئة حكومية إعادة تقييم وتعريف الوظائف واختصاصها على جميع المستويات وإعلانها حتى يعرف كل موظف مسؤوليته وواجبه، ويشمل هذا الوزير نفسه لمسؤوليته الكبرى كوظيفة تنفيذية سياسية، ويعمل على الحصول على أعلى ميزانية لوزارته، وخلق بيئة عمل تشجع الأداء الفردى والعمل الجماعى وحب العمل، ونشر ثقافة الإدارة السليمة بالتعامل الإيجابى بين الرئيس والمرؤوس والاستماع الجيد لآراء ومطالب الموظفين والعمال واللامركزية فى اتخاذ القرار وإعطاء الصلاحيات فى الإدارة، وعلى الوزير أن يفهم أنه ليس بوسطجيا، يوقع على كل ورقة صغيرة. الاهتمام بالتدريب المتواصل وزيادة القدرات لتأهيل العاملين على كل المستويات شاملة الوزير نفسه والمديرين، وهذا يتم عن طريق ورش عمل وتبادل الخبرات واستخدام الخبراء، والتدريب يشمل سبل الإدارة الحديثة وكيفية التعامل مع الموظفين والمرؤوسين. فهل نعلم أن الصين ترسل بعثات إلى سنغافورة لتتعلم كيف تكون الإدارة الحكومية، وترسل بعثات إلى كوريا الجنوبية ليتعلموا كيف يتم إدارة الشركات الكبيرة الناجحة. ضرورة وجود آليات لضمان الشفافية والمتابعة والمحاسبة وتطبيق القوانين للقضاء، ومعرفة أن الفساد ليس ماليا فقط فالفساد الوظيفى هو الأخطر، بما يشمله من إهمال وتخلف عن العمل، والمحسوبية وثقافة البقاء للأضعف والمنافق ومحاربة النجاح، ولذلك لابد من ضمان التقييم الحقيقى لأداء الموظفين والعمال خال من المحسوبية، ومبنى بمقاييس ومعايير واضحة ومعلنة لكل وظيفة والتشجيع على الأداء الحسن والانتماء للوظيفة عن طريق المكافآت والترقيات والدورات التدريبية والبعثات، ومن أحد السبل التى تساعد على تقييم الأداء والتعرف على جودته، هو عقد اجتماعات أسبوعية بين الرئيس ومرؤوسيه لمراجعة الإنجازات ومناقشة المشاكل والحلول وتحديد المسؤولية وأخذ القرارات الجماعية السليمة، مما يؤدى إلى القضاء على ثقافة الخوف على الوظيفة والتشبث «بالكرسى»، وثقافة تقدم المنافق والضعيف وليس المنتج القوى الذى يجب أن يحظى بالتقدم والترقية والحوافز. تغيير النظام الهرمى البيروقراطى ومفهوم الترقيات والدرجات، فمن الخطأ الكبير بناء الوظائف الإدارية والرئاسية، على الأقدمية بدون الأخذ فى الاعتبار الأداء والعلم والقدرة على الإدارة والخبرة الحديثة، فالمؤسسات الناجحة هى التى تعتمد على الخبرات الحديثة والقادرين على الإدارة وذوى الرغبة فى التطوير وزيادة كفاءة الإنتاج بدون النظر إلى عدد سنوات الخدمة، وليس هناك مانع من المحافظة على الأقدمية والدرجات ولكن لابد من إعطاء الفرصة للشباب الناجحين للتقدم السريع فى الوظيفة. إعادة النظر والدراسة الجدية فى الدخل والمكافآت ومراجعة اللوائح غير العادلة. فوضع حدود للمرتبات بدون دراسة جدية قد يكون الطريقة الخطأ، ففى سنغافورة يرتبط دخل الوزراء بنسبة تحقيقهم للخطة الموضوعة، فكلما حقق الوزير دخلا أكثر كلما زاد دخله، ولذلك نجد رواتب الوزراء فى هذا البلد الصغير هى الأعلى فى العالم، وجاءت نتيجة للتقدم الكبير والإنجازات السريعة الناجحة. وإذا كان ما سبق يتعلق بالإدارة، فأمام الرئيس مرسى تحد كبير يتعلق بالتخطيط المستقبلى لرسم مستقبل البلاد على المدى القصير والمتوسط والبعيد، فوضع خطة شاملة لمصر هو الأمل الوحيد للتقدم ورفع مستوى المعيشة. والسؤال ما هى آليات التخطيط ومن الذى يقوم بهذا التخطيط المستقبلى؟، وهذا ممكن تحقيقه عن طريق الآتى: لابد أن يكون لكل وزارة أو هيئة حكومية إدارة تخطيط منفصلة فعالة تعتمد على الخبراء والمستشارين، وعندها قاعدة البيانات المطلوبة والتعامل مع كافة السيناريوهات والاحتمالات المتوقعة ووضع الحلول لها، وعلى هذه الإدارات نشر النتائج بكل صدق وشفافية قابلة للمناقشة والحوار البناء. إنشاء لجان استشارية فى كافة الوزارات والهيئات من القادة السابقين القادرين، ذوى السمعة الجيدة علما ونزاهة، ومن شباب التكنولوجيا الحديثة للاستفادة من خبرتهم. تشجيع وتمويل مراكز الدراسات والأفكار «Think Tanks» فى المجالات المختلفة ويفضل أنها تكون غير حكومية ومنفصلة عن الجهاز الحكومى كما يحدث فى كثير من الدول المتقدمة، وتمتلك هذه المراكز القدرة على الدراسات والتخطيط الدقيق ووضع المقترحات البناءة بدون أى ضغوط حكومية. إنشاء فرق عمل «Task Force» تشمل الخبراء من داخل وخارج البلاد فى عدة مجالات رئيسية مثل الاقتصاد والاستثمار والتعليم والصحة والطاقة والسياسة الخارجية للعمل خلال زمن محدد قصير لوضع الخطط المبدئية للمدى القصير والمتوسط والبعيد، وتمثل هذه الدراسات المبدئية نقطة البداية لإدارات التخطيط الأخرى للقيام بالدراسات التفصيلية. الاعتماد الكبير على الإحصائيات وقواعد البيانات والمعلومات الصحيحة وبنوك المعلومات لاتخاذ القرارات السليمة المبنية على أسس علمية وحقائق، وهذا مجال عمل جديد وكبير للشباب، فمن الممكن بسهولة تأهيله واستغلاله فى جمع المعلومات عن جميع قطاعات المجتمع ومساعدة الأجهزة الموجودة مثل جهاز التعبئة العامة والإحصاء. لابد من وجود جهاز لإدارة الأزمات لتفادى العشوائية التى تميز بها عهد مبارك، وإدارة الأزمات تعتمد على الإحصائيات والمعلومات وقواعد البيانات وعلى توقع الاحتمالات الداخلية والخارجية، وعلى افتراضات السيناريوهات المتوقع حدوثها، وهذا هو النهج الذى تتبعه الدول المتقدمة، حيث يوجد بها مراكز للتعامل مع كافة أنواع الأزمات شاملة الأزمات الطبيعية كالزلازل والحرائق والفيضانات والأعاصير، والغريب أننا فى مصر، نواجه يوميا أزمات غذائية وحوادث وخبز ووقود وغيرها دون أن نتوقعها، ولا نعرف آلية للتعامل معها. تفعيل معهد التخطيط ووزارة التخطيط الموجودين حالياَ، فبالرغم من وجودهما إلا أننا لا نعرف دورهما فى التخطيط المستقبلى للبلاد، ونوعية الدراسات التى تقوم بها الجهتان، ومدى مساعدتهما للوزارات والهيئات الحكومية الأخرى، ومن الضرورى أن تكون هذه الوزارة حلقة ربط بين كل أجهزة التخطيط فى المجالات المختلفة، ومسؤولة عن التنسيق ونشر الدراسات وطرحها على الخبراء للدراسة والتقييم. وفى النهاية فإن النجاح المضمون والسريع هو الذى يعتمد على استخدام الخبرات والاستثمار فى جذب العقول ونقل الخبرة والاستفادة من المستشارين والخبراء، والاستفادة من الخطوات الناجحة التى اتبعت فى الدول المتقدمة.