مبادرة جريئة أطلقها الدكتور أحمد درويش وزير الدولة للتنمية الإدارية تمنح بعض العاملين بالجهاز الإداري للدولة إمكانية العمل من المنزل دون إلزامهم بالتواجد في مكاتبهم مع حصولهم علي الأجر بالكامل. فكرة منزلك مكتبك ستطبق أولا بوزارة التنمية الإدارية علي أن تتولي الوزارة البت في طلبات الأخذ بهذا النظام من بقية الوزارات والهيئات الأخري وتحديد بعض الإدارات التي لا تتطلب بالضرورة التواجد في مكان العمل لتطبيق التجربة كالرد علي الاستفسارات القانونية والأعمال الروتينية. حول أبعاد هذه التجربة، ومدي ملاءمتها لظروف العمل في مصر،ومقومات نجاح المبادرة، وتأثيراتها الايجابية أو السلبية تدور السطور القادمة مع الخبراء والمتخصصين في الاقتصاد والإدارة والتنمية البشرية. في البداية تقول الدكتورة عزة الفندري مدير مركز دراسات التنمية البشرية بمعهد التخطيط القومي ان الاتجاه لإتاحة الفرصة أمام بعض الموظفين لأداء مهام عملهم خارج نطاق المؤسسة، سواء من منازلهم، أو من أية أماكن أخري يعتبر فكرا رائعا لتحديث أسلوب العمل بالجهاز الإداري للدولة، وتوفير أشكال متعددة لتنفيذ التكليفات الصادرة للموظفين بما يحقق سيولة وتيسير دولاب العمل من ناحية، وتسهيل المهام علي الموظفين من ناحية أخري، خاصة ان هذا الفكر مطبق بنجاح في العديد من وحدات القطاع الخاص، حيث يتم تقييم الموظف بالأهداف ودرجة إجادة تنفيذ المهام، وليس فقط من خلال الفترة الزمنية التي يقضيها داخل المؤسسة. وتستدرك د. عزة موضحة انه بالرغم من جاذبية الفكرة، واستحسان الاقتراح البراق، إلا انه سيواجه بما يمكن ان نسميه »تحديات التغيير« حيث ان كل نظام تقليدي قديم يتصدي أفراده لأية أفكار مستحدثة وغير تقليدية لعدم رغبتهم في التغيير، وخوفهم من انعكاساته عليهم، وبالتالي لابد أولا من تغيير »ثقافة العمل«، وهو ما يحتاج تدريبا وجهدا ومثابرة وتطوير فكر »موظف الحكومة« التقليدي إلي صورة أكثر تطورا وفعالية. وتطالب مديرة مركز دراسات التنمية البشرية بتطبيق الفكرة علي »نموذج تجريبي« يمكن من خلاله تقييم التجربة بإيجابياتها وسلبياتها، وتعديل بعض بنودها تبعا للخبرة العملية، خاصة لو كانت هذه الوحدة التجريبية داخل حدود وزارة الدولة للتنمية الإدارية، قبل تعميمها علي غيرها من الوزارات والهيئات الحكومية، وفي نفس الوقت دراسة مدي إسهام هذا النموذج المقترح في تطوير منظومةالعمل بالجهاز الإداري للدولة والارتقاء بمستوي الأداء. يؤكد الدكتور عبدالمطلب عبدالحميد رئيس قسم الاقتصاد بأكاديمية السادات للعلوم الإدارية ان المبادرة التي أطلقها الدكتور أحمد درويش وزير التنمية الإدارية هي امتداد طبيعي للعولمة والثورة المعلوماتية التي اجتاحت العالم، وهذه التجربة مطبقة في أمريكا وحققت نجاحا ملموسا لذلك فإنها قابلة للنجاح، ويسمي هذا »الاقتصاد الجديد« أو الرقمي ويسميه البعض »اقتصاد الإنترنت مؤكدا أن الجدوي الاقتصادية لهذه المبادرة ستكون عالية وتوفر نفقات كثيرة وتختزل مصروفات كثيرة وتحقق سيولة مرورية لأنه في هذه الحالة نكون قد جعلنا عددا لا بأس به من الموظفين خارج معادلة الزحام المروري. ويضيف د. عبدالمطلب قائلا ان نجاح هذه المبادرة يحتاج إلي تنظيم وتنسيق بين الهيئات ليتم انجاز الأعمال بكفاءة ودون قصور، كما يتطلب تعديل بعض بنود قوانين العمل حيث انها تنص علي ان يتقاضي الموظف أجرا مقابل ان يأتي إلي العمل كل يوم، وتحديد ساعات عمل محددة يقضيها في المكتب، ويشير إلي انه إذا تم تعميم هذه التجربة وتطبيقها في مختلف القطاعات والهيئات فيجب إعادة تأهيل الموظفين وتدريبهم علي التأقلم مع هذا النظام الجديد لأن الموظفين لديهم قناعة راسخة ان البيت للراحة فقط وليس للأعمال فضلا عن عدم صلاحية عدد كبير من الموظفين بسبب انتشار الأمية الالكترونية وعدم الوعي الكامل بكيفية التعامل مع الكمبيوتر والتكنولوجيا الحديثة، وسيقلل هذا من إهدار الوقت في العمل. صعبة عمليا: أما الدكتور حمدي عبدالعظيم استاذ الاقتصاد بأكاديمية السادات للعلوم الإدارية فيري ان الفكرة يصعب تحقيقها في مصر لأن العمل في المنزل عادة ما يكون بتعاقد حسب الإنتاج، أو بالتكليف بعمل معين يتم انجازه وتسليمه إلي صاحب العمل، وهذا لا يتناسب مع طبيعة المصريين فهم دائما يبحثون عن عمل دائم بدخل منتظم بصفة دورية، ولكن العمل داخل المنزل عائده »متقلب« ومتغير، كما أن العمل من المنزل يكون ضد مصلحة العمل في أحيان كثيرة، لأن هناك أعمالا لها خصوصية وسرية عالية لأنها تتعلق بخصوصيات عاملين أو أسرار مؤسسات ولا يجوز لأحد من الأصدقاء والأقارب الاطلاع عليها، بالإضافة إلي المخاطرة التي تنتج من أخذ أحد العاملين لمستندات وملفات لاستكمالها في المنزل والمتمثلة في فقدان هذه المستندات أو تعرضها للسرقة أو »الحرق« وهذا خطر خاصة ان الجهاز الحكومي لا يتعامل سوي بالمستندات والأوراق ويتساءل ماذا لو فقدت المستندات الأصلية؟ ويضيف د. حمدي: ان العمل في المنزل يخالف نظم الإدارة الحديثة المتبعة في العالم المتقدم، لأن هناك اعمال يقوم بها أكثر من شخص في وقت واحد وهو ما يسمي »فريق عمل« وهذا ضمن اساسيات الجودة الشاملة التي اعتمدت عليها اليابان في تقدمها الإداري، فالعمل الجماعي يتيح لكل فرد أن يؤدي دورا معينا ويكون هناك قائد للفريق يوزع الأدوار ويقيم الأداء. أما عن نجاح هذه التجربة في أمريكا فيري الدكتور عبدالعظيم ان العمل من المنزل في الولاياتالمتحدة يتم انجازه وارساله إلي مقر العمل عن طريق الإنترنت والوسائل التكنولوجية المتقدمة أما في مصر فتوجد شبه أمية في التعامل مع الكمبيوتر والأجهزة الحديثة، إذن فالأمر يتطلب جهودا كبيرة في اعداد الموظفين وتجهيزهم وتأهيلهم لهذا النمط الجديد في العمل. مشيرا إلي ان الوظائف التي يتم انجازها في المنزل هي الوظائف البحثية والنظرية فقط دون الأعمال الأخري، هذا فضلا عن فقدان هذه المبادرة والعمل من المنزل لعناصر الأمان الوظيفي. ويؤكد الدكتور محمد النجار استاذ الاقتصاد بجامعة بنها انه نتيجة قلة الانفاق العام للحكومة والعجز في الموازنة، فهناك اتجاه لتقليل عدد العاملين في الجهاز الحكومي تحت مسمي »العمل من المنزل« لتخفيف حدة الزحام وتحقيق سيولة مرورية، خاصة بعد ان أصبح تخفيض الأجور أمرا يصعب تحقيقه في ظل الأزمة المالية العالمية لأن معظم الأفراد يعيشون بالكاد علي مرتباتهم الهزيلة التي لا تكفيهم. كما ان الاتجاه إلي نظام العمل بعقود مؤقتة، وعدم تثبيت هذه العمالة بسبب ضعف الموازنة العامة للدولة هو صورة من العمل في المنازل، حيث يكون هذا العمل بالإنتاج إذن هي وظيفة غير ثابتة. كما ان صور التقليل من العاملين كثيرة ومنها المعاش المبكر الذي يجعل الموظفين يسوون المعاش قبل السن القانونية، وعمل المرأة من المنزل ليساعدها ذلك علي تأدية واجباتها الأسرية وتربية الأجيال وهي المهمة الأسمي. ضوابط ومقومات : من جانبه، يبدي مسعد حسين مدير الموارد البشرية وخبير التدريب بإحدي الشركات الكبري ترحيبه بالمبادرة المقترحة بالعمل من المنازل بشرط مراعاة بعض الضوابط. مشيرا إلي ان القطاع الخاص فطن مبكرا لايجابيات هذا النظام، لذلك فلم يعد غريبا ان تدخل أحد الكازينوهات أو »الكوفي شوب« الشهيرة، وتجد معظم الجالسين يستخدمون الحاسب الشخصي المحمول »اللاب توب« ومنهمكين في العمل وهو ما يحقق مرونة وراحة نفسية في أداء المهام، فضلا عن المحاسبة وفقا للأهداف وليس مجرد التواجد. ويكمل: هذا النظام لا يصلح بالطبع للتطبيق علي جميع الإدارات ولا علي جميع الموظفين، لذلك فلابد ان تحدد الجهة العليا الإدارات التي يمكن أن يتاح للموظفين فيها اللجوء للعمل من المنازل حتي لا تتعطل منظومة العمل، كذلك لابد من تحديد مهمة محددة للموظف ليقوم بتنفيذها من المنزل، بدلا من جلوسه في بيته ينفذ عملا بصورة خاطئة دون توجيه فيهدر يوم عمل بلا طائل. ويحدد خبير التنمية البشرية عدة محددات لتطبيق هذه المبادرة ابرزها إجادة الموظف الذي سيعمل من البيت للتعامل مع شبكة الإنترنت واستخدام الحاسب الآلي، كذلك التأكد من سلامة شبكة الاتصال ومقاومتهما من ناحية وبتكلفة منخفضة، خاصة ان احدي المغريات للأخذ بهذا النظام ما يمكن للموظف توفيره من تكاليف الانتقال والمواصلات والإفطار وخلافه، وبالتالي فإن وجود اتصال شبكي عالي التكلفة سوف يهدم الفكرة وسيعود الموظف من جديد لتفضيل الذهاب إلي المكتب. وعلي الجانب الآخر، يعدد مسعد حسين سلبيات نظام العمل من المنزل بحرمان الموظف من »خبرة تدريبية« مستمرة من خلال التعامل مع رؤسائه ومرؤوسيه، والاحتكاك بالمواطنين وطالبي الخدمة، كما سيغيب عن هذا الموظف متابعة يوميات العمل داخل المؤسسات وفرص الترقي وآليات طرح الاقتراحات وتلقي الشكاوي، إلا انه يعود ويؤكد ان الايجابيات أكبر من السلبيات التي يمكن معالجتها، فضلا عن استفادة شريحة كبري من الموظفات من هذه التجربة وحمايتهن من »البهدلة« في المواصلات ومتابعة أسرتها وأولادها.