أسطورة غريبة وعجيبة تداولتها أساطير الإغريق وأراها علقت بالثوب المصرى، تحكى أن حاكما مستبدا يدعى "كرونوس"، حكم البلاد حكما مطلقا، يأمر فيطاع، أنسته نشوة السلطة نبوءة أمه بأن واحدا من أبنائه سيستولى على حكمه وعرشه يوما ما، مما جعله يتخذ حيلة أسطورية، وهى أن يبتلع كل مولود تضعه زوجته "رايا" التى فقدت بذلك كل مولود تلده، غير أنها لجأت بعد تكرار فقدها لأولادها واحدا تلو الآخر إلى أن تذهب بمولودها الجديد إلى أبعد مكان تصل إليه يد زوجها الظالم "كرونوس"، لتضع وليدها "زيوس" وتعهد إلى ربة الأرض "جايا" بالحفاظ على وليدها، فتحرص "جايا" على الطفل وتصون العهد، فنقلت الرضيع إلى جزيرة بعيدة حيث صنعت له مهدا بعيدا عن البحر واليابسة حتى لا يعثر عليه أبوه فيبتلعه مثل أخوته، فلا يمس الأرض ولا يطول السماء، محروساً من جماعة من العمالقة يطلقون صيحات مدوية حتى تختفى دونها صرخات الوليد فلا يسمعها أبوه. وتتوالى أحداث الأسطورة الطويلة وتتشابك ويهمنا هنا نهايتها، حيث أصبح الطفل شابا يافعا ونما رغم أنف أبيه، ويذهب للقاء أمه، ويعد كأس خمر مخلوطة بالملح لأبيه دون علمه، فيتقيأ الحاكم الظالم ما فى جوفه من أبناء ازدردهم وابتلعهم، ليخرجوا من بطنه معافين أصحاء لم يمسسهم سوء، ليجتمعوا تحت قيادة أخيهم "زيوس" فى مواجهة الأب المستبد، لتقترح الأم أن يضم "زيوس" أعداء الأب إلى جيشه ليحقق النصر، ويحقق" زيوس" رغبة أمه ليجمع أعداء أبيه من سجونهم فينتصروا جميعا وينهزم الأب شر هزيمة بعدما تحالفت البحار والمحيطات والصواعق والظلام والأمواج ضده، ليتم نفيه بعيدا، وتنتهى أسطورة سادة أولمب الإثنى عشر ويصبح "زيوس" حاكما. فهل تنعكس هذه الأسطورة على المصريين الذين عانوا الأمرين من حكم الحديد والنار فيتمكن منهم الشعور بالانتقام من أى مسئول رئيساً كان أو مديرا أو مسئولاً؟. المعروف عن المصريين أنهم هم أسرع البشر نسياناً للإساءة وتغاضياً عن الانتقام وأقرب الشعوب تسامحا ومحبة ومودة لألد أعدائهم، فقد نسى المصريون مذابح دنشواى وعربدة الفرنسيين وفساد الأتراك المماليك بينما لم تنس شعوب الحرب العالمية كراهيتها بعضها البعض ولولا "تكبير الدماغ " والتعاون الاقتصادى بينها لما انتهينا من حروبهم. إذن فما الذى حدث لسماحتنا ؟ ومن عبث بها ؟ إنها كارثة بكل المقاييس أن يفقد المرؤوس شعوره بمسئوليته تجاه عمله ليتحدى رئيسه فى العمل ويقلل من قدره ويسفه من رأيه ولتقل ثقته فى قيادته فتتحول الحكمة إلى فوضى يصعب معها إدارة أى مؤسسة فما بالك بإدارة دولة كبيرة مثل مصر. فهل هو حرمان المصريين طوال ماضيهم الشاق من حقوقهم المشروعة والشعور بالتخويف والقلق والظلم والكراهية والكبت والحرمان من العطف والإرهاب الفكرى والبدنى الذى تحول إلى مشاعر بغيضة تجاه أى حاكم فى المستقبل وإلى صدمة انفعالية تحمله على الاستمرار فى الشعور بالخوف من أى حاكم والتربص له وبه فى أى خطأ يقع فيه ولو كان سوء اختياره للون كرافتته ؟ أم أن هناك من يلعب على أوتار الوجيعة المصرية وفقرها وآلامها ليحيى فى عقل المصريين ذاكرة بغض المدير والرئيس والحاكم والتخويف من مصير الوقوع بين براثن الماضى وذكراه الكريهة ؟ الطبيعى والمنطقى أن يكون هناك رافضون ومعارضون أصحاب آراء ونظريات مخالفة للنظام القائم، ولكن غير الطبيعى هو التدمير والتخريب والتمرد والعصيان والمظاهرات التى تشتعل هنا وهناك، تاركة خلفها عشرات المصابين والقتلى، والشىء الأنسب لوصف هذا العنف هو جلد الذات والانتقام من الماضى فى صورة تحدى "كرونوس" القابع فى الذاكرة. "كرونوس" الذى أهان مصر بسوء التعليم وسطحيته وعبثه، وهدم صحتها فمات الآلاف ظلما دون علاج ولا دواء، وسرق قوتها فلم يترك لها سوى الفتات، وتركهم ينهب القوى فيهم ضعيفهم، ويقود الأمى فيهم عباقرتهم، ويعلو السفيه فيهم أحلامهم. فإذا كان الأمر كذلك وسكنت عقدة "كرونوس" عقولنا، فستصبح مؤسسات مصر بلا مدير يديرها، ولن "يعيش لنا رئيس" لأن البعض يريدون أن يثبتوا – لأنفسهم وللحاكم أيا كان - أنهم أقوى وأعتى، فإذا أمر عصيناه، وإذا اقترح رفضنا عرضه، وإذا قال يميناً سرنا يسارا. الأسطورة الأغريقية يا من تريدون إحياءها فى عقول المصريين لا تناسب سماحتنا وعقولنا وآدابنا وتقاليدنا الأصيلة، فكل" كرونوس" حكم مصر سابقا له حسناته كما له سيئاته، كما أن القلب المصرى أشد بأساً وطيبة ورقة وذكاء وأصالة ووطنية من ألف "زيوس" .