هناك أناس يبثون فى حياتنا المشاعر والأحاسيس الدافئة.هم معنيون، دون أن يدروا، بالحفاظ على توازن الحياة، فهم يمثلون جانب الخير والصفاء فى عالم سيطرت عليه المادة بشكل كبير، وهم معنيون أيضاً ببث الطمأنينة والهدوء فى نفوس من يعيش معهم، من هؤلاء الناس جدتى. هذه السيدة التى تنتمى لجيل بدأ يفنى عن آخره. وعلى الرغم من تعاقب السنوات والأحداث والتغيرات يظل هذا الجيل متمسكاً ببساطته وعفويته ونقائه وطيب سريرته، كانت جدتى هى ملاذا من حولها، حين تنهكهم هموم ومتاعب الحياة يهموا إليها طالبين الدعاء، لتنطلق من قلبها قبل لسانها كلمات أجمل ما فيها صدقها، عندما تسمع دعاءها لك ينتابك شعور عجيب بالأمان، وبأن الدنيا مازالت بخير وبأن غدا سيكون أجمل، هذا شعور كفيل بأن ينقلك من حال إلى حال. جدتى عاشت طويلاً وحتى آخر أيامها كانت تتمتع بصحة وعافية، رغم أنها دخلت فى العقد الثامن من عمرها. لم تمارس الرياضة أو حرصت على اتباع نظام غذائى للحفاظ على وزنها وصحتها، لم تكن حريصة على تناول فيتامينات ومقويات أو تتابع مع الطبيب حالتها الصحية بصفة مستمرة، فقط كانت تمارس دورها كربة بيت وأم بنشاط مستمر، تستيقظ بعد الفجر لتصلى وتبدأ بعد ذلك رحلتها اليومية فى العناية بمنزلها الكبير وأسرتها الكبيرة، تدور مثل النحلة لتضع رأسها فى نهاية اليوم وهى سعيدة وراضية وقانعة، وكأن جدتى تبعث إلينا برسالة واضحة مفادها أن صحة الإنسان وعافيته تكمن فى نشاطه وحركته ورضاه وقناعته. لم تقرأ جدتى كتاباً فى كيفية إدارة الضغوط، ولم تلجأ لطبيب نفسانى حتى يعينها على التعامل مع هموم وضغوط الحياة المتجددة، ولم تكن جدتى من هواة طرح همومها ومشاكلها على الآخرين. لكنها كانت تتخلص من الضغوط بشكل سريع وسهل، وطريقتها فى ذلك هى "ارمى حمولك على الله". عاشت جدتى فى سلام مع نفسها ومن ثم عاشت فى سلام مع الآخرين ولم تشهد حياتها الطويلة خصاماً أو شجاراً مع قريب لها أو بعيد عنها، لذا فقد عاشت حياة سهلة غير معقدة حينما جنبت نفسها متاعب وهموم الخلاف والصراع والخصام والتباغض مع من حولها. العجيب أن جدتى بعد أن أدت دورها فى رعاية أبنائها وبناتها على أكمل وجه ووصل أكبر أبنائها وبناتها لسن الستين وأكثر عادت لتخدم بنتها الكبرى فى مرضها، عادت تمارس مهمتها بكل رضا ورغبة فى العطاء، وكأن جدتى تبعث لنا برسالة مفادها أن السعادة فى هذه الدنيا تتحقق بالعطاء وليس بالأخذ. وبالفعل أعطت جدتى أكثر مما أخذت وهذا هو أعظم معانى الحياة وأصعبها على النفس البشرية فى ذات الوقت. حان وقت الحصاد جدتى، اسعدى واستمتعى بما لم تره عين ولم تسمعه أذن ولم يخطر على قلب بشر، وادعى لنا فى عالمك الجديد كما كنت تدعى لنا فى الدنيا، اطلبى من ربك الذى أحبك وغرس فى قلوب الناس حبك أن يعيننا على إدراك معانى الرضا والسلام والعطاء. اللهم اغفر لها وارحمها كما أسعدتنا وأعطتنا... اللهم ألهمنا الصبر وعوضنا خيراً عن شمسنا التى غربت.