فاجأت فرنسا الجميع بالتدخل غير المحسوب لها عسكريا فى شمال مالى لمحاربة الجماعات المتمردة هناك - والتى من أهمها جماعة أنصار الدين وحركة التوحيد والجهاد - والذين يريدون الانفصال بهذه المنطقة والتى تسمى "الأزواد" عن الدولة الأم وإقامة امارة اسلامية بها. تلك المنطقة التى نجحت الجماعات والانفصالية والمتشددين الإسلاميين فى السيطرة عليها وعزلها عن العاصكة باماكو وعن بقية المدن المالية، تمهيدا لإعلانها دولة مستقلة تطبق "شرع الله" على حد وصفهم، وهو ما أدى إلى طلب السلطات فى مالى رسميا من الأممالمتحدة تفويضا "لقوة عسكرية دولية" من أجل انتشار قوات تابعة لدول غرب أفريقيا فى مالى لمساعدتها على إعادة السيطرة على شمال البلاد. وبالفعل أصدر مجلس الأمن قراره رقم 2085 فى 20 ديسمبر الماضى، بتشكيل قوة تضم ثلاثة آلاف جندى غالبيتهم من الأفارقة ومن قوة المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا "الإيكواس"، كما دعا القرار الحكومة المالية إلى الالتزام بموازاة ذلك بعملية مصالحة سياسية ومفاوضات مع المجموعات المسلحة شمالى البلاد. لكن سرعان ما شنت فرنسا حربها المباغتة بالوكالة على عكس ما نص عليه قرار مجلس الأمن السابق ذكره، وأتصور أن قرار الحرب الذى اتخذته باريس لم يحظ بقبول دولى واسع، كما أنه لم يتم التنسيق له استخباراتياً ولوجيستياً وعسكرياً مع بقية الدول الأخرى وعلى رأسهم الولاياتالمتحدة. وأزعم أن فرنسا وجدت نفسها متورطة فى أول أيام هذه الحرب بعد مقتل جندى وإسقاط مروحية بجانب أنها تحارب جيش غير نظامى غامض له إستراتيجيته العسكرية المختلفة عن الجيوش النظامية. وأعتقد أن فرنسا حتى الآن لم تجد دعما عسكريا كافيا لحربها على مالى من الدول الأوروبية والولاياتالمتحدة وكندا.. إلخ لخشية هذه الدول فى أن تقع فى مستنقع يصعب الخروج منه، وخوفا أيضا من تكبد خسائر مالية باهظة فى ظل أزمة اقتصادية حادة تعانى منها معظم دول العالم. والسؤال هنا لماذا أقدمت فرنسا على شن حرب ضد مالى بدون تنسيق وإجماع كاف من دول العالم، بالرغم من أن القرار مجلس الأمن رقم 2085 كان واضحا وصريحا بشأن التصريح للمجموعة الأفريقية بنشر قواتها فى مالى لمنع تقدم ما سماهم ب "المجموعات الإرهابية والشبكات الإجرامية"، ولم يشر القرار أبدا إلى تدخل عسكرى صريح لأى دولة غير أفريقية اللهم إلا تقديم دعم لوجيستى ومعلوماتى لهذه القوات، كما أن الرئيس الفرنسى فرانسوا هولاند ذكر بأن فرنسا - التى تتصدر المتدخلين فى هذا الملف بسبب مصالحها فى المنطقة ورهائنها المختطفين من قبل الجماعات الإرهابية - ستقدم "دعما لوجستيا" لهذه القوة لكن ليس قوات فى الميدان وهو ما لم يحدث. التدخل الفرنسى فى مالى له أهداف أخرى سياسية واقتصادية بالتأكيد، ولم يقتصر فقط على محاربة المتمردين والإرهابيين هناك، ففرنسا لها مصالح إستراتيجية فى دول جنوب الساحل - التى من بينها مالى - باعتبارها مستعمرات قديمة لها، وتسعى بالتأكيد أن يكون لها موطىء قدم فى هذه المنطقة خاصة وأنها تتمتع بثروات طبيعية عديدة كالنفط والذهب واليورانيوم، وتريد فرنسا تأمين حصتها ومواردها من النفط فى حالة قيام الولاياتالمتحدة وإسرائيل بضرب إيران مما سينتج عنه توقف إمدادات النفط فى الخليج العربى. فرنسا بهذا التدخل وسعت ساحة الحرب التى لم تعد تقتصر فقط على شمالى مالى، ولكن امتدت أيضا إلى جنوبىالجزائروتونس وليبيا وهو ما حدث بالفعل فقد تم احتجاز أكثر من 600 رهينة تابعين لشركة بترول جنوبىالجزائر على يد جماعة "الموقعون بالدماء" -إحدى فصائل تنظيم القاعدة - رداً على التدخل السافر للجزائر وفتح أجوائها أمام الطيران الفرنسى لقصف مناطق شمال مالى، على حد قولهم. وبالمثل أيضا فقد عثرت الوحدات الأمنية التونسية على كميات كبيرة من الأسلحة والمتفجرات والذخيرة فى مستودع تابع لأحد المنازل فى محافظة مدنين بالجنوبالتونسى، وهى منطقة صحراوية تقع على الحدود مع الجزائر وليبيا ويتنقل فيها الإسلاميون المتشددين بكل حرية وتعتبر ملاذا آمنا لهم. وبلاشك سيكون للتدخل العسكرى الفرنسى ارتدادات على الأمن القومى الإقليمى فى المنطقة، وخاصة فى ظل تواصل الهشاشة الأمنية، وغياب الاستقرار الذى خلفه سقوط نظامى بن على فى تونس ومعمر القذافى فى ليبيا، وعدم تعافى الجزائر من سنوات مقاومة التطرف التى أنهكت المجتمع والدولة، مما سيجعل أمن المنطقة فى مرمى النيران، كما أن سقوط نظام القذافى ساهم فى انتشار السلاح فى المنطقة الحدودية، وتمكنت الجماعات المتطرفة من الحصول على كميات كبيرة من هذا السلاح. كما أن هذه الحرب ستؤدى إلى تدفق العديد من اللاجئين والنازحين الماليين إلى دول الجوار كالنيجر وموريتانيا، مما سيؤدى إلى تردى الأوضاع الإنسانية هناك (حيث توقعت مفوضية الأممالمتحدة لشؤون اللاجئين نزوح ما يقرب من 700 ألف لاجئ من جراء أعمال العنف فى مالي، وكذلك فرار حوالى 400 ألف إلى دول مجاورة خلال الأشهر القادمة). ومن غير المستبعد أن يدفع المتمردين فى شمال مالى إلى توسيع العمليات لتشمل دول المنطقة فى محاولة لتخفيف الضغط العسكرى. أزعم أن أمد هذه الحرب ستدوم طويلا، وستفشل فرنسا فشلا ذريعا فى القضاء نهائيا على الجماعات المتمردة فى شمال مالى وكسب معركتها معهم، لأن ببساطة تحارب فرنسا فى مساحة جغرافية واسعة تعادل مساحتها تقريبا، وفى منطقة صحراوية غير مأهولة بالسكان وبها العديد من الجبال والسهول التى تصّعب من المهمة الفرنسية بجانب مواجهتها لمسلحين متمرسين على معارك الرمال. لقد قوضت فرنسا فرص الحلول الدبلوماسية والسياسية بخطوتها الأحادية الجانب، وللأسف الشديد لم تتعلم من الفشل الأمريكى فى العراق وافغانستان خلال العقد الماضى، وفى الصومال خلال تسعينات القرن الماضى، وفاتورة الحرب سيدفع ضريبتها بالطبع دول جوار مالى وليست فرنسا. إن على فرنسا الانسحاب فورا من شمال مالى قبل تفاقم الأوضاع هناك وتحولها من سىء إلى أسوأ، والبدء أولا بالحلول الدبلوماسية، ثم الاستعانة بالحلول العسكرية فى حال فشلت المفاوضات وليكن التدخل العسكرى تحت مظلة أممية وقوات دولية أو قوات من الاتحاد الأفريقى أو من الإيكواس.