كلنا متفقون أن إرث العهد البائد كبير ومهول، لأن الرئيس المخلوع وعائلته وحزبه المنحل وأمن الدولة الملغى خططوا بعناية لإجهاض أى اعتراض على مؤامرة التوريث التى يدبرون لها. كلنا متفقون أن جميع القوى السياسية والثورية بلا استثناء تركت الميادين بعد انتصار الثورة وانصرفت لجنى المكاسب واقتطاع جزء من كعكة الانتصار فظهر الاستقطاب فى أول اختبار ديمقراطى فى الاستفتاء على الدستور فى مارس الذى أعقب الثورة مباشرة، وفى هذا الاستقطاب استخدم كل طرف الأدوات المشروعة وأحيانا غير المشروعة فى حشد مؤيديه. على الساحة السياسية ظهرت الصورة واضحة ملخصها قوى سياسية وثورية منقسمة إلى قوى الإسلام السياسى والقوى المدنية وأيضا المجلس العسكرى ودولة فلول مبارك العميقة وبقايا الحزب المنحل وكل له مآربه وأهدافه ويحلم بالسلطة والحكم. الجميع متفق على تحقيق أهداف الثورة "عيش حرية عدالة اجتماعية وكرامة إنسانية" والقصاص للشهداء ومعركة التطهير ومحاربة الفساد واعتماد الديمقراطية لإعادة بناء المؤسسات وتبادل السطة سلميا وبشكل حضارى. كلنا عشنا أياما من القلق على مصر الحبيبة من الفوضى والبلطجة وأفعال الثورة المضادة وخلق أزمات مفتعلة فى السلع الضرورية وخلافات سياسية ومظاهرات واحتجاجات فئوية وتعطيل لعجلة الإنتاج ونجاحات وإخفاقات للإبقاء على الحد الأدنى الذى يسمح بالسير إلى الأمام وكل ذلك يعتبر من الأمور الطبيعية التى تواجه أى ثورة فى العالم. استمر بركان الثورة يعلو وينخفض مرة مع هؤلاء ومرة مع هؤلاء ووصلنا إلى انتخاب رئيس منتخب لأول مرة فى التاريخ المصرى القديم والحديث. كان نقطة فارقة فى تاريخ مصر أول مرة نرى رئيس من جماعة الإخوان المسلمين يعتلى كرسى الرئاسة بطريقة شرعية فى منطقة الشرق الأوسط هذه النقطة وحدها كانت كالبركان، وكان المفروض أن يخلع الرئيس عبائته الايدولوجية وينصب نفسه رئيسا لكل المصريين. وازداد الاستقطاب الحاد بين القوى الإسلامية والقوى المدنية بالرغم من أن هدفهم واحد ولكن لكل فريق رؤيته وطريقته فى تحقيق أهداف الثورة واضعا السلطة والحكم نصب عينيه. استمر البركان الثورى يقذف حممه على حالة البلاد المتردية والمتدهورة التى ورثناها من النظام البائد وازدادت الفوضى وازداد التعطيل وارتفعت وتيرة الإهمال واستمر نزيف الدم وارتفت نبرات التطرف والعنف والمبالغة والميل لإقحام الشارع فى كل كبيرة وصغيرة وفقد الجميع بوصلة الديمقراطية ومعانيها والشعب يدفع ثمن الحكومة الضعيفة التى تفتقد دعم البرلمان ومراقبته وثمن استئثار الرئيس بجميع السلطات فى يده مع التردد فى اتخاذ قرارات ثورية وانقسام المجتمع إلى مؤيدين للرئيس ومعارضين للرئيس ووصل الانقسام إلى مؤسسة القضاء التى نالت ما نالت من السخرية مع مسلسل البراءة لجميع قتلة الثوار وإلى الجمعية التأسيسية وأصبحت البلاد تعيش بشكل يومى تحت كل هذه التهديدات. بالأمس القريب انتفض الرئيس باستعمال سلطاته الرئاسية والتشريعية وفى غياب الدستور والبرلمان وقام بإضافة إعلان دستورى هدفه رد الحقوق المسلوبة لشهداء ومصابى ثورة يناير وإنشاء هيئة للعدالة الانتقالية تحت مسمى قانون حماية الثورة مع تعيين نائب عام جديد وكل ذلك مطالب ثورية ومطالب شعبية. هذا الإعلان الدستورى خرج تماما يحمل فى طياته سما وكان تعمدا لوضع السم فى العسل. تحقيق مطالب ثورية منها إقالة النائب العام وإنشاء هيئة العدالة الانتقالية تحت مسمى قانون حماية الثورة وإعادة محاكمة كل من قتل أو أصاب أو اعتدى على ثوار 25 يناير وكل من تواطأ أو أخفى الأدلة وضلل العدالة التى لم تستطع أن تحكم إلا بالبراءة للجميع وكان ذلك هوالعسل. أما السم فكان فى تحصين قرارات الرئيس وإضفاء القداسة عليها لدرجة أننا الآن نخشى من ديكتاتورية جديدة وإن كانت عادلة. وببساطة شديدة مع هذا الإعلان الدستورى ازدادت حدة الاستقطاب وارتفعت درجة سخونة التنافس وأعتقد أن الكل يتحفظ على تحصين قرارات الرئيس من الطعن عليها أمام القضاء وكذلك تحصين الجمعية التأسيسية ومجلس الشورى وقطع الطريق على المحكمة الدستورية للبت فى دستوريتهم. كلنا سنبقى معترضين على جعل قرارات الرئيس قرارات فوق الدستور والقانون أو الهيئة معاذ الله لأن ذلك بداية صنع دكتاتور جديد وتغول شديد من مؤسسة الرئاسة واسعة الصلاحيات على السلطة القضائية وهى الحصن المنيع للديمقراطية مهما كثر اللغط حول نزاهتها السياسية. قرارات لا ينكر أحد أنها فى صالح شهداء ومصابى ثورتنا المجيدة لا ينكر أحد أنها قرارات ثورية مهمة ولكنها حملت فى طياتها رائحة الدكتاتورية التى نمقتها جميعا وفى نفس الوقت زادت الطين بلة وكانت بمثابة سكب للزيت على حالة الاستقطاب الحادة التى تعيشها مصر. سيزداد الشارع المصرى سخونة وربما اشتعالا ولا يستطيع أحد التنبؤ بما هو قادم. الخطورة تكمن فى أننا لم نسمع عن رئيس أعطى نفسه صفة القوة الوحيدة المسيطرة فى غياب البرلمان وتراجع عنها بسهولة. الخطورة تكمن فى ازدياد سخونة الشارع ولا نعلم إلى أين سيكون مصير البلاد. الخطورة تكمن فى أن القرارات عادلة ولكنها دكتاتورية والشعب يمقت الدكتاتورية حتى لو كانت عادلة. كلنا نمقت الدكتاتورية حتى لو كانت مؤقتة نمقتها حتى ولو لمدة دقيقة أو عدة دقائق. جزء كبير من الشعب يتملكه الخوف من قفز الإخوان المسلمين على السلطة واستبدال دكتاتورية مبارك بدكتاتورية أخرى وخاصة فى غياب أى تطمينات للشارع الهائج. كلنا لا نقبل بأن يكون الرئيس أو الإخوان أو غيرهم هم حماة الثورة لأن الشعب هو وحده القادر على حماية ثورته. الآن وبعد أن أصبح رئيسنا المنتخب هو القوة الوحيدة فى البلاد والتى لا يمكن لأحد أن يعترض عليها فى بلد ليس بها دستور أو برلمان. الآن أصبحنا بلا ضمانات أن يخرج علينا دستور يحمى الثورة ويحمى الحريات ويحفظ مدنية الدولة الحديثة والعصرية. الآن أصبحنا بلا أى ضمانات لمنع إنتاج دكتاتورية جديدة وطرحها كبديل للدكتاتورية السابقة. الآن أصبحنا أكثر عرضة للفوضى والصراع والعنف والتطرف وربما الحرب الأهلية لا قدر الله وابتعدنا كثيرا عن التوافق والحوار، الآن وقد فقدت مصر جزءا من حرية شعبها بهذه القرارات وأقحمنا القضاء فى حالة الاستقطاب السياسى الحاد، ماذا نقول إلا الدعاء لمصر ونقول حمى الله مصر شرور الفتن ما ظهر منها وما بطن.