فى هذه الأيام تمر ذكرى رحيل الكاتب الروائى المبدع خيرى شلبى الذى استطاع أن يحفر اسمه فى سجل الرواية العربية، معتمدا النوعية الكتابية التى لا تخضع للفذلكات السردية ولا للنظريات المعقدة ومعتمدا الكم أيضا.. حيث مثَّل شلبى حالة سردية خاصة تليق به وتليق بالأدب العربى. وبعيدا عن الأسئلة المباشرة التى من الممكن أن توجه إلى كاتب فى حجم خيرى شلبى.. يمكن الحديث بكل ثقة عن طريقة خاصة به فى الكتابة.. وعن خط محدد لمفهوم السرد ولمفهوم الحكى ولمفهوم الشفاهية ولمفهوم الكتابة ولمفهوم المهمش.. هذا المهمش الذى جعلته حالة شلبى السردية ضحية للمركزية القاتلة.. وبعيدا عن الأسئلة المتعلقة بحالته عند الكتابة وبطقوسه وهيئته التى يخضع لها حال الكتابة.. فخيرى شلبى لا يمكن لنا أن نتخيله يجلس فى مكتب مهيئ للكتابة والأوراق البيضاء أمامه معدة والقلم مستقر بطريقة تود الكتابة.. لا يمكن لنا أن نتخيل خيرى شلبى بهذه الطريقة حتى لو أقسم أى إنسان أنه ظل يكتب كذلك طوال حياته.. لكن أن يكتب بين المقابر فهذا ممكن.. وأن يكتب فى المطبخ - كما كان يقول - فهو أمر محتمل.. فخيرى شلبى لا يستحضر العدم وهو يكتب ولا يخضع إلى منطق الحكاية تماما.. فهو يحتاج للكتابة بين المقابر كى يدير حوارا مع جيرانه الحقيقيين.. وربما غير رسم مستقبل شخصية بناء على رأى أحد جيرانه الموتى. خيرى شلبى من الكتَّاب القلائل الذين كلما قرأت جزءا من إحدى رواياته ينتابك شعور أن تنظر إلى صورته الشخصية بملامحه الأسطورية القديمة، وتحس أنه يبتسم.. وأنه يملك أكثر من الذى قاله لك.. صورته المعلقة على أغلفة كتبه دائما بها نوع من الحياة الذى يتحرك عبر التجاعيد وخلف نظارته الكبيرة.. هذه الصورة تقلب لك الورق وتضع عينك على لحظة ما من الحدث.. هى أبدا لا تكون صورة صامتة.. ثم تتسلل إليك ابتسامته عندما تجد نفسك أمام موقف إنسانى دقيق رسمه فى كتابته يطارد به لحظة إنسانية مغرقة فى القوة أومغرقة فى الضعف.. وأخيرا تسأل نفسك متى كانت هذه الملامح الحكيمة شابة؟ ومتى كان لا يبتسم ابتسامة العارف؟ تراه يمسك خيوط العمل بشكل مريب فى تمكنه لا يترك لك مخرجا للتوقع.. فدائما ما يفاجئك.. فمعرفته بدقائق النفس البشرية المهمشة غريب.. خيرى شلبى – دائما – يشبه شخصياته، فكأنه يكتب عن تجربة ذاتية خاصة به مر بكل مراحلها بالمشاركة أو بالمعرفة.. فهو يسكن فى وكالة عطية يتحرك داخل تاريخ حيطانها.. يتسرب منها إلى المركز كشىء غريب مختلف لا يشعر بالاستقرار إلا عندما يسمح له "شوادفى" بعبور البوابة للدخول للوكالة.. لا يسكن خيرى شلبى أبدا فى قلب المدينة، لكنه يقضى بها نهاره وجزءا كبيرا من ليله خاصة فى شوارعها الخلفية وعالمها السفلى الحقيقى المفعم بالحياة.. فهو يمر على أرصفة المدن كى يكتب على جدرانها العالية أسرار المهمشين. والسرد عند خيرى شلبى يحمل خصوصية تتجه به نحو إنسانية عامة فهو يحفل بخصوصية المكان من خلال البيئة المصرية الخالصة سواء البيئة الريفية "الوتد" المدينة "الشطار" العشوائيات "الأمالى" وغير ذلك فهو يقدم تنويعات مختلفة لبيئة مصرية تملك خصوصية المكان.. لكنه يحمل عالمية فنية ووجودية من خلال عالمية الأزمة التى يعيشها الإنسان عامة، فالهموم التى تشكل شخصياته أقرب إلى هموم الإنسان الأول فما زال الخوف هاجس أبطاله الذي يدفعهم للموت أو للجنون.. وما زال الجوع هو طريقة تفكيرهم.. ومازال الموت – وحده – الذى يدفعهم لوضع حد لحياتهم المهدرة.. خيرى شلبى يشبه قارئ الكف لكنه وبامتياز يقرأ أيدينا بطنا وظهرا بكل كفاءة.. ولا يمكننا أن نخبئها منه.. فهو يكتب تاريخا جديدا للمكان ولأبطاله.. كل ذلك يكون معتمدا على فكرة المهمش بما يمثل امتدادا لأبطال المقامات، لكنه يختلف من حيث الفكرة ومن حيث الواقعية.. فالمهمش عنده هو ذلك الذى لا يعترف أحد بأزمته.. هو المطالب دائما بالبحث عن موضع لقدميه.. الذى يجيز لنفسه ما لا يمنحه المجتمع.. الذى يملك قوانينه وحياته وسرده وحكاياته.. ويقدم شلبى نماذج مختلفة للمهمش فى رواياته فهو فى "الشطار" يختلف عن "الأمالى" وفى "وكالة عطية".. لا علاقة له بالمهمش فى "نسف الأدمغة".. فقد مر خيرى شلبى بمراحل كتابية مختلفة مثَّل المهمشون فيها جوهر الحكاية.. فالمهمش فى "وكالة عطية" نجد جميع الشخصيات على وعى بأنها تلعب على حافة الحياة من حيث المكان ومن حيث الماضى المثقل الذى يحملونه على أكتافهم فلكل واحد منهم حكايته الخاصة.. وبناء على ذلك يمارس قطيعته مع المجتمع كل شخص بطريقته التى قد تكون بالسرقة للعالم الخارجى المختلف وقد تكون بالنصب وقد تكون بالاستقلال والانعزال والرفض.. يتعاملون مع العالم المركزى على أنه متربص بهم وهم متربصون به.. أما فى "نسف الأدمغة" فقد انتقل خيرى شلبى للقاهرة على أمل الفرار من المعدمين والحزانى فى قريته، فإذا بهم قد سبقوه إلى قلب القاهرة وشوارعها واحتلوا أركانها.. والجديد أنه اكتشف أن المهمش فى المدينة يملك سمات خارجية مختلفة فليس شرطا أن يكون معدما.. بل على العكس هم أغنياء لكن إحساسهم بالضياع يظل موجودا "عيد أبو القاسم" والحاج حسين الوراق" و"أبو ميمى" شخصيات متحققة خارجيا لكنها مهمشة وضائعة.. رغم اعتراف المجتمع بوجودهم إلا أنهم مهمشون لأنهم هم لا يعترفون بوجود أنفسهم.. بينما يظل الفقراء المعدمون يسكنون خلفية العمل... خيرى شلبى هو ملك الترسو وكاتم أسرار المهمشين وأحد الأبطال فى "موال البيات والنوم".. وهو شهرزاد حكاياتهم وكاشف أمرهم.. من خلال كتابة فنية وسرد روائى. * أحمد إبراهيم الشريف باحث وناقد أدبى