اختار خيري شلبي لسيرته الذاتية – والتي صدر الجزء الأول منها عن الهيئة المصرية العامة للكتاب – قبل وفاته بأيام عنوانا يلخص جوهر كتاباته وهو «أُنس الحبايب» وهو عنوان يدل علي الألفة والقرب من الحياة والناس المنسيين والمهمشين الذين عاصرهم وعايشهم طوال رحلة الحياة. خيري شلبي الذي قال عن نفسه ذات يوم «ما أنا إلا حكواتي سريح، أشتري الحكايات من منابتها، أجوب وراءها الأسواق والشوارع والحارات والمنعطفات، ناهيك عن القري والعزب والكفور، مهما كلفني السعي وراءها من بذل ومشقة وعناء، غير أنني لست أبيعها مطلقا، إنما أنا مولع بأسماء أصحابها وبأصواتهم، ليس افتتانا بهذه الألوان المختلفة من طرائق السرد الشعبي الساحر في تلقائيته غير المحتاجة إلي وسيط من لغة خارجية، وإنما إلي ذلك لأنهم أخبر مني بمكامن نفوسهم ومواطن أوجاعهم». وفي موضع آخر يقول: «أنا في الواقع أغوص – في كل ما كتبته من قصص وروايات في صعيد الوقائع الحياتية التي أكاد أزعم – بالفعل – أن ما كتبته من رواية أو حتي أقصوصة من نصف صفحة كان تجربة فنية نابعة من تجربة حياتية». وإذا كان خيري شلبي هو من أهم من ركزوا علي الشخصية المصرية في الكتابة السردية المعاصرة فإنه يقدم لنا عبر سيرته الذاتية ملامح للشخصية المصرية الريفية عبر أشخاص عايشهم وأثروا في تكوينه الإنساني والأدبي محققا في ذلك مقولة «فيليب لوجون» عن كتابة السيرة الذاتية: بأنها «حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز علي حياته الفردية، وعلي تاريخ شخصيته بصفة خاصة». لكن خيري شلبي يقفز علي هذا التعريف ليحقق مقولة «بيرسي لوبوك» عن أدب السيرة بأنه «كيان أدبي متمرد، بل دائم التمرد علي الأشكال والقواعد الأدبية»، حيث يجعل خيري شلبي الذات الساردة في هامش النص ليعلي من قيمة الآخر الذي ساعد وساهم في تشكيل هذه الذات روحيا واجتماعيا وثقافيا. ففي الفصل الأول نراه يتحدث عن «مدرسة عبدالله النديم» التي شهدت تعلمه لحروف الأبجدية الأولي وليصبح هذا المكان هو «البطل» في الكتابة السردية بتكوينه الجغرافي وما يضمه من شخصيات حفرت أماكنها في ذاكرته المتمردة، ولعل أهم تلك الشخصيات الناظر الشيخ حسن الزيات الذي يصفه شلبي قائلا: «ناظر مدرستنا آنذاك رجل فاضل من حملة شهادة عالمية الأزهر الشريف، ظل علي ولائه لزيه الرسمي: الجبة والقفطان والعمامة فكان هو المعمم الوحيد بين لفيف من الأفندية المطربشين، كنا نصطبح بوجهه كل يوم في طابور الصباح للتفتيش علي نظافة التلاميذ من فرط ندرتها بين عيال من أبناء الفلاحين والأجرية بل والمعدمين الذين لا يملكون سوي الجلباب الذي يستر أجسادهم وبعضهم لا يخعله عند النوم، عذرهم ليس الفقر وحده، إنما العذر الأكبر أن المدارس لم تكن في حسبان أهاليهم من الأساس». وكان تلاميذ المدرسة – عادة – ما يذهبون إليها حفاة إلا أنه جاء إلي إدارته – ذات صباح – منشور من «وزارة المعارف» يطلب من كل تلميذ قرش صاغ مقابل تفصيل حذاء، ولم يكن لدي أسرة الطفل «خيري شلبي» سوي «بطة» باعتها أمه لتوفير هذا القرش. وفي هذا يقول: «وباعت أمي البطة التي كانت مرشحة للذبح في موسم عاشوراء، ورغم حزني الشخصي علي البطة فإنني صرت مزهوا بأني دفعت القرش قبل كثيرين غيري». ورغم هذه التضحية الكبيرة التي نالت من أحلام الأسرة الصغيرة الفقيرة بأكل لحم البطة في موسم عاشوراء، إلا أن وزارة المعارف لم تف بوعدها بإحضار الأحذية للتلاميذ رغم حصولها علي ثمنها منهم. عيون مفتوحة ورغم ما عاناه خيري شلبي في طفولته من شظف العيش لكنه مضي في طريق الحياة بعيون مفتوحة يلتقط التفاصيل ولا يتركها إلا بعد أن يدونها في ذاكرته الوحشية التي تشبه غابة مليئة بالأشجار وهو وحده الذي يملك حق التجوال فيها والصيد منها والشرب من آبارها العذبة – أحيانا – والمالحة في أحيان أخري. ربما أحد أسرار تميزه أنه حول هذه المعاناة في الطفولة والشباب من عمله في وظائف مختلفة كعامل زراعي وعامل تراحيل والتدريس إلي أن يصبح كاتبا صحفيا، ورئيسا لتحرير مجلة الشعر – حوّل هذه الرحلة الخصبة والوعرة إلي كتابة تمور بألق الحياة، ليفتح في رواياته ملفات للأرض المصرية وناسها البسطاء الذين همشتهم السياسات الظالمة علي مر العصور، رغم أنهم «ملح الأرض» علي حد تعبيره، ومن يقرأ رائعته «الوتد» والتي حصل بها علي جائزة الدولة التشجيعية عام 1983 سيري البعض الآخر للشخصية الريفية المصرية في النصف الأول من القرن العشرين بتحولاتها العاصفة، وبراءتها الآسرة، وقوتها الكامنة خلف طيبتها المعهودة. ملح الأرض وربما لم نجد رواية تمجد شخصية المرأة المصرية الريفية مثل هذه الرواية عبر شخصية «فاطمة تعلبة» والتي قادت أسرتها إلي بر الأمان وكانت مضرب المثل بين أهل القرية والقري المجاورة في التحمل والصبر والقيادة والمشورة. وهي شخصية حقيقية هي امرأة عم خيري شلبي نفسه «محمد عكاشة»، بل إن من شخصيات الرواية من كانت لهم تأثير حقيقي علي الكاتب في طفولته ومنهم «صادق» الذي يقول عنه شلبي: «كان صادق ابن عمي الأكبر محمد عكاشة من ألمع شخصيات طفولتي المبكرة طوال عقد الأربعينيات من القرن العشرين – كان صادق هذا عاشقا للسيرة الهلالية بالإضافة إلي حبه لشعراء الربابة حيث كان هو أيضا قوي الحنجرة كصالح عبدالحي ومحمد عبدالمطلب، عاشق للرواية الشفاهية السردية محبا للشعر وبه تأثر خيري شلبي، كما تأثر بشخصية الشيخ محمد زيدان عسر الذي أمده بكثير من المعارف – فكان علي حد تعبيره – يشبه شخصية طه حسين، فكلاهما ضرير يتمتع بثقافة موسوعية فائقة مع الفارق، يقول شلبي عن تأثره بتلك الشخصية – التي كانت قريبة من سنه – «مثل طه حسين كان الشيخ محمد زيدان عسر مجبولا علي العطاء حتي لمن لا يطلب عونه، وفي شخصية طه حسين ذابت الفروق بين الشيخ طه الأزهري وطه أفندي أو طه بك خريج السوربون، الفرانكفوني الثقافة إلي تفقهه في ثقافته العربية الأم – وكذلك بدون مقارنة – طبعا – كان الشيخ محمد زيدان عسر، ذابت في شخصيته الفروق بين الأزهري والأفندي المدني والفلاح القراري والحكواتي والفلكلوري». عاشق الفلكلور ومن مثل هذه الشخصيات وغيرها تعلم «خيري شلبي» حب التراث الشعبي فراح ينهل من معينه مستفيدا من لغته – عبر كتابته الروائية – التي اعتمد فيها علي فكرة الحكاية متضافرة مع نظريات السرد الحديثة. وقد استفاد – أيضا – من خبراته الحياتية في النقطة لتميز الكتابة الروائية عنده وهي: «التشكيل البصري» فهو من أقدر الروائيين علي رسم الصورة الروائية الواقعية، يتجلي ذلك في رواياته التي كتبها عبر أكثر من أربعين عاما ومنها «وكالة عطية» و«الأوباش» و«موت عباءة» و«إسطاطية» و«بغلة العرش» وغيرها. وربما هذا ما عبر عنه خيري شلبي – في إحدي شهاداته – قائلا: «أنا ابن الفلكلور المصري الذي رسخ في وعي طفولتي المبكرة أن لي أختا تحت الأرض يجب أن أحنو عليها وأن أترك لها لقمة من يدي». وفي سيرته الذاتية يقابلنا فصل بالغ الخصوصية يتحدث فيه عن «طاسة الخضة» وهي واحدة من وسائل العلاج التي كان متعارفا عليها في الريف المصري ويعرفها لنا خيري شلبي قائلا: «كانت طاسة الخضة مفردة رئيسية في قاموس حياتنا اليومية في البلدة، وكانت تثير فضولي، ولاأزال إلي اليوم أحاول فض سرها دون أن أفلح في استقراء ما وراءها من كلمة يقابلها العقل، هل هي مجرد طقس سحري يقصد به التأثير الإيجابي علي نفسية المخضوض، فيعتدل جهازه العصبي، أم أنها تستند إلي كلمة طبية مدروسة بالتجربة، وذات تأثير عضوي مباشر يختلط بدم المخضوض». وكانت زوجة عمه «الحاجة فاطمة نوحاية» – والتي استلم منها شخصية «الحاجة فاطمة تعلبة» تقوم بدور طبيبة القرية فهي موسوعة في أصناف وأسماء العطارة، وكان دولابها مليئا بالقوارير والعلب المليئة بالأدوية والأعشاب التي تستخدم في علاج معظم الأمراض.