عن ثلاثة وسبعين عاما رحل الروائي الكبير خيري شلبي أحد أعمدة الرواية العربية في القرن العشرين، وأحد الذين أسسوا لذائقة روائية مصرية خالصة، هو حكاء الرواية العربية الأول، وعاشق الموروث الشعبي، الباحث في أغواره، والعائش في تفاصيله، الناسج من حكايات الأزمان الغابرة شخصيات تنبض بالحياة في سياق العمل الروائي. عاش خيري شلبي حياة مختلفة، ارتضاها لنفسه، فعشقته الحياة - رغم صعوبتها - وعشقها رغم قسوتها، صنع من أوجاعها أحلاما ويوتوبيا ، وأهدته الحياة نعمة الرضا والاختلاف. إذا كان تميز نجيب محفوظ لأنه أفضل من كتب عن الحارة المصرية - عبر تاريخها المتنوع - فإن خيري شلبي أغزر من كتب عن القرية المصرية، وأكثر الروائيين غوصا في حياة الريف، وأصدقهم، وأقربهم إلي الشخصيات التي كان يكتب عنها، فرغم خياله الجامح لكنه كان يؤمن كثيرا بمقولة: «إن أفضل الكتابة أن تكتب عما تعرف». وقد عركته الحياة وشاكسته - كثيرا - منذ طفولته بل منذ مولده بقرية «شباس عمير» بمحافظة كفر الشيخ عام 1938، لأسرة ريفية بسيطة كان حلمها الكبير أن تري طفلها المشاكس حافظا للقرآن وأفنديا مثل أولاد البنادر، حيث كانت القرية - في ذلك الوقت - مثلها مثل باقي القري المصرية تكاد تكون نسبة التعليم فيها منعدمة، وقد استبشر أهل القرية - خيرا - بإنشاء أول مدرسة ابتدائية بها وهي «مدرسة عبدالله النديم» التي أنشئت عام 1923، وكان يشرف عليها رجل فاضل من حملة شهادة العالمية الأزهرية وهو الشيخ حسن الزيات. وكان الأطفال - عادة - ما يذهبون إلي هذه المدرسة وهم حفاة إلا أنه يوم من الأيام جاء إلي المدرسة منشور من وزارة «المعارف العمومية» يطلب من كل تلميذ قرش صاغ من أجل إعطائه حذاء يمشي فيه ولم يكن لدي أسرة خيري شلبي سوي بطة باعتها أمه لتوفير هذا القرش، وهذا ما يشير إليه في آخر مؤلفاته «أنس الحبايب» والذي يروي فيه جزءا من سيرته الذاتية قائلا: «وباعت أمي بطة كانت مرشحة للذبح في موسم عاشوراء، ورغم حزني الشخصي علي البطة فإنني صرت مزهوا بأني دفعت القرش قبل كثيرين غيري لم يقتنع أهاليهم بعد بأن الحكومة يمكن أن يأتي من ورائها رجاء». ورغم هذه التضحية الكبيرة التي نالت من أحلام الأسرة الصغيرة الفقيرة بأكل لحم البطة في موسم عاشوراء، لكن وزارة المعارف لم تف بوعدها بإحضار الأحذية للتلاميذ رغم حصولها علي ثمنها منهم. عيون مفتوحة ورغم ما عاناه خيري شلبي في طفولته من شظف العيش لكنه مضي في طريق الحياة بعيون مفتوحة يلتقط التفاصيل ولا يتركها إلا بعد أن يدونها في ذاكرته الوحشية التي تشبه غابة مليئة بالأشجار وهو وحده الذي يملك حق التجوال فيها والصيد منها والشرب من آبارها العذبة - أحيانا، والمالحة في أحيان أخري. ربما أحد أسرار تميزه أنه حول هذه المعاناة في الطفولة والشباب من عمله في وظائف مختلفة كعامل زراعي وعامل تراحيل والتدريس إلي أن يصبح كاتبا صحفيا، ورئيسا لتحرير مجلة الشعر حول هذه الرحلة الخصبة والوعرة إلي كتابة تمور بألق الحياة، ليفتح في رواياته ملفات للأرض المصرية وناسها البسطاء الذين همشتهم السياسات الظالمة علي مر العصور، رغم أنهم «ملح الأرض» علي حد تعبيره، ومن يقرأ رائعته «الوتد» والتي حصل بها علي جائزة الدولة التشجيعية عام 1983 سيري البعد الآخر للشخصية الريفية المصرية في النصف الأول من القرن العشرين بتحولاتها العاصفة، وبراءتها الأسرة، وقوتها الكامنة خلف طيبتها المعهودة. تأثير حقيقي وربما لم نجد رواية تمجد شخصية المرأة المصرية الريفية مثل هذه الرواية عبر شخصية «فاطمة تعلبة» والتي قادت أسرتها إلي بر الأمان وكانت مضرب المثل بين أهل القرية والقري المجاورة في التحمل والصبر والقيادة والمشورة. وهي شخصية حقيقية هي امرأة عم خيري شلبي نفسه «محمد عكاشة»، بل إن من شخصيات الرواية من كان لهم تأثير حقيقي علي الكاتب في طفولته ومنهم «صادق» الذي يقول عنه شلبي: «كان صادق ابن عمي الأكبر محمد عكاشة من ألمع شخصيات طفولتي المبكرة طوال عقد الأربعينيات من القرن العشرين - كان صادق هذا عاشقا للسيرة الهلالية بالإضافة إلي حبه لشعراء الربابة حيث كان هو أيضا قوي الحنجرة كصالح عبدالحي ومحمد عبدالمطلب، عاشق للرواية الشفاهية السردية محبا للشعر وبه تأثر خيري شلبي، كما تأثر بشخصية الشيخ محمد زيدان عسر الذي أمده بكثير من المعارف فكان علي حد تعبيره - يشبه شخصية طه حسين، فكلاهما ضرير يتمتع بثقافة موسوعية فائقة مع الفارق، يقول شلبي عن تأثره بتلك الشخصية - التي كانت قريبة من سنه - مثل «طه حسين» كان الشيخ محمد زيدان عسر مجبولا علي العطاء حتي لمن لا يطلب عونه، وفي شخصية طه حسين ذابت الفروق بين الشيخ طه الأزهري وطه أفندي أو طه بك خريج السوربون، الفرانكفوتي الثقافة إلي تفقهه في ثقافته العربية الأم - وكذلك دون مقارنة - طبعا كان الشيخ محمد زيدان عسر، ذابت في شخصيته الفروق بين الأزهري والأفندي المدني والفلاح القراري والحكواتي الفلكلوري». ومن مثل هذه الشخصيات وغيرها تعلم «خيري شلبي» حب التراث الشعبي فراح ينهل من معينه مستفيدا من لغته - عبر كتابته الروائية - التي اعتمد فيها علي فكرة الحكاية متضافرة مع نظريات السرد الحديثة، وقد استفاد - أيضا - من خبراته الحياتية في النقطة لتميز الكتابة الروائية عنده وهي «التشكيل البصري» فهو من أقدر الروائيين علي رسم الصورة الروائية الواقعية، يتجلي ذلك في رواياته التي كتبها عبر أكثر من أربعين عاما ومنها «وكالة عطية» و«الأوباش» و«موت عباءة» و«إسطاسية» و«بغلة العرش» و«الشطار» و«سارق الفرح» و«نسف الأدمغة» و«صالح هيصة» و«العراوي» وغيرها.