فى عام 2007 قررت أن أصطحب ابنى رامى فى رحلة مغامرة نبدأها باستقلال القطار من مدينة فالون، التى نقيم فيها حتى مدينة أثرية ذات بنايات قديمة وطبيعة ساحرة فالمدينة لم تتأثر بويل الحرب وتقع شمالى ألمانيا واسمها جوسلر.. حجزت تذاكر السفر وبدأت رحلتنا، وصلنا مع حلول الظلام إلى الحدود الدنماركية لنستبدل هناك قطارنا السويدى بقطار السفر الليلى المجهز بغرف نوم.. الجميل والعجيب بل والمدهش أن القطار الذى نستبدله يدخل بعلم الهندسة والتخطيط فى مسار سكة حديدة موجودة داخل باخرة عملاقة ولم يكن قطارنا الوحيد من يدخل بل وجدنا قطارا آخر موازيا لمسار قطارنا.. تغلبتنا الدهشة وأصررنا على النزول للدور الأرضى لتفقد ما تحويه هذه الباخرة العظيمة.. شاهدنا تقريبا شئ لا تصدقه العين مئات من السيارات العادية والعالية ذوات الأحمال المختلفة.. وعندما صعدنا بالمصعد إلى الدور العلوى كانت المحلات والمطاعم والجلسات الهادئة تثبت لنا أننا لا نقف قطعا على الماء، هذا عدا عن المنتشرين فى أروقة الباخرة ينظرون إلى ما تحدثه الباخرة مع الأمواج العنيفة والعاتية كما تحدثه الأسماك العملاقة من لهو شقى.. تراءت لناظرى الدنمارك من بعيد بأضوائها خلف الأمواج كشموع يسقط ضوئها فى تكاسل وانسجام.. فى الصباح وعند سماعنا لأصوات تبدو كاحتكاك الأشياء لخلاصها من بعضها أيقنت أن القطار قد أفلت من قبضة البحر متنفسا عبير الجبال والتلال على أطراف هامبورج.... فى أثناء عودتنا من ألمانيا وفى قلب محطة القطارات الكبيرة والمتفرعة الخطوط ومتعددت الإشارات والاتجاهات فقدنا القطار الذى سينقلنا إلى ميناء هامبورج الجوى والبحرى.. فقط دقيقة واحدة من تأخرنا وليس بذنبا بل تأخر من القطار الذى استقللناه من جوسلر.. جعلنا هذا الوضع المتوتر نركض سريعا نحو الاستعلامات لنقوم بتغيير خط سيرنا محاولين أن نكسب الوقت قبل أن ترحل الباخرة التى تنتظر عودتنا فى منتصف الليل وكانت المحاولة غير ناجحة فبين أن ننتظر أن يأتى القطار التالى وبين وصوله للميناء تكون الباخرة قد عبرت فى ثلاثين دقيقة من الوقت البحر ضاربة بظهرها جمود ذهولنا وتوترنا غير عابئة بما نحمل فى أيدينا من تذاكر السفر والحقائب الثقيلة.. بعد مناقشة طويلة مع مركز الاستعلامات والنجاح فى إقناعهم بأن التأخير هو ليس بمحض إرادتنا وأنه بفعل تأخر قطار الوصول بدقيقتين استطعنا الحصول على ختم يمنحنا فرصة الوصول صباح اليوم التالى فى قطار يعود من هامبورج إلى الدنمارك على ظهر باخرة أخرى ..انتظرنا طيلة الليلة مستيقظين حتى لا يغلبنا النعاس وننام ونفقد قطار الصباح الباكر نحو كوبنهاجن.. عندما اخترنا مقاعدنا فى قطار العودة من هامبورج نحو كوبنهاجن وبعد أن قطع القطار شوطا طويلا فى أحضان الطبيعة المتنوعة المظهر واللون والشكل وبعد نعاس ويقظة، استيقظ ذهنى على خطوات سيدتين يستأذنان أن تجلسا فى المقعد المقابل لنا كان ردى بالترحاب والسعة.. كان الصباح مفعما بالطاقة والنور ونسمات الطبيعة الراكضة مع عجلة القطار تشبه نسائم الشواطئ الرطبة وتمر مع شعاعات الشمس من بين الألواح الزجاجية لشبابيك القطار فتبسم لها العين والشفاه.. قلت لرامى الظاهر آه هدول النسوان بالعين راديو بطارياته فل ما سكتو عن الضحك والحكى من لما ركبو واختاروا بالضبط يقعدوا فى وجوهنا.. انتبهت السيدة التى بدت لى أنها فى منتصف العمر للكلمات العربية التى تبادلتها مع ابنى.. وبنظرة نحونا فيها من الإيحاء أن السيدة ربما فهمت شيئا ما من الحديث مع ابنى وتفحصها بالنظر تارة نحوى وتارة نحو رامى أدركت أنا تماما أن لهذه المرأة قصة ما مع اللغة العربية أو بالأحرى مع من يتحدثها.. قامت السيدة من مقعدها لشراء بعض السكاكر وفنجان قهوة، وعند عودتها فسحت لها بعض المجال لتأخذ راحتها فى تمديد ساقيها بحرية من أسفل الطاولة التى تفصل بيننا وعند شعورها بحركتى الطيبة نحوها ابتسمت وقالت شكرا بالعربية فلم أدهش كثيرا وقلت إن يستطيع الإنسان كلمة من لغة ما فهذا لا يعنى الكثير ورددت عفوا. وبعد برهة من الوقت سألتنى السيدة عن طريق وجهتنا وثم عن مكان قدومنا وسؤال يلحقه آخر وهى تنظر بخفة النظرات الخاطفة والآمنة نحو رامى وتعود بالابتسام لسؤالى عن زميلى فى الرحلة فأضحك مقهقها قائلا لها هذا ابنى فتستغرب المرأة لأن حجم رامى لا يبدى لها بأنه ابنى.. فرامى له من الطول وتقسيم الوجه وغلاظة الأجفان ما يبديه بأنه شاب وليس طفلا وهذا ما دعا بعض البنات للقدوم نحوه فى ميناء هامبورج طالبات منه يجلس معهن ويتعرف عليهن قلت للبنات وقتها إنه طفل ولا أريد أن نفقد القطار إذا ذهبوا بعيدا عنى ونحن غرباء عن المدينة. سالت السيدة عن سبب تطلعها نحونا عندما تحدثت مع رامى محاول إدراك أن فهمت شيئا من حديثى عنها وعن صديقتها.. فاجأتنى هى بسؤالها لى إن كنت قد سمعت عن علامة صوفى عربى اسمه محيى الدين ابن عربى وبدت على ملامحى دهشة بالغة الأثر عند سؤالها هذا لى.. تسألنى عن اسم لعلامة عربى مظهرة فى نطقها لاسمه بعض القداسة والنبالة والطهر والعصمة وأنا أفتش فى ذاكرتى المدرسية عن الصحابة وتابعيهم وعهود نفوذ الخلافة فى إشبيلية وقرطبة والأندلس وأسافر فى لحظة صمت مقدسة عبر العلوم الإنسانية باحثا فيها عن ضالتى محاولا إقحام تلك السيدة الأوربية بأننى درست وباستفاضة عن عهد الصوفية الأول وأننى أعرف عظماء شعرائهم.. وأخرج بعد هنيهة من صمتى مدركا بأننى لا أعرف شيئا وأننى على قدر ما اطلعت عليه من العلوم والآداب والفكر والمواسيع بشتى ألوانها أفشل الآن أن أجمع ولو بنبذة بسيطة عن العلامة ابن عربى.. فأصمت وأصغى للسيدة التى أخذت من جلستها اللامبالية باستعراض مفاتن جسدها جلسة أخرى جادة فيها من الحضرة القدسية ما يعطى جل الاحترام لما تذكره لى عن تأثرها بهذا الشاعر الصوفى.. صارت السيدة ترنم وتغنى وتتراقص مع خيوط ذهبية من ضوء الشمس الساطعة على قلادة صدرها كأؤلئك الذين نشاهدهم فى الموالد. كانت السيدة ترنم أشياء من ترجمان الأشواق وتضع معظم الأحيان يديها تجاه قلبها وتهز برأسها كالثمل المبتسم الزاهى فتبتسم لحركاتها صديقتها وأنا فى ذهول تام.. هذه بعض الأبيات من ترجمان الأشواق لابن عربى يقول فيها غادرونى بالأثيل والنقا أسكب الدمع وأشكو الحُرَقا بأبى مَنْ ذبتُ فيه كمدا بأبى مَنْ متُّ فيه فرقا حمرة الخجلة فى وجنته وَضَح الصبح يناغى الشفقا قوّض الصبرُ فطنّب الأسى وأنا ما بين هذين لقى مَنْ لبَثّى مَنْ لوجدى؟ دلّنى! مَنْ لحزنى مَنْ لصبٍ عشقا كلما ضنت تباريح الهوى فضح الدمع الهوى والأرقا كنا وأعتقد أننا ما زلنا نتهم الآخر بعدم معرفته لنا وعدم قراءته لثقافتنا وأننا محاصرون ثقافيا وأننا معزولون عن العالم الآخر ولا يفهمنا أحد وكنا وربما مازال بعضنا يردد أن كتبنا العربية هى محصورة فى مكتباتنا ولا ترى نور العالم وهذا غير صحيح.. إننا نحن الذين لم نقرأ الكثير عن تراثنا ونجهل الكثير عن رواد الفكر والأدب والحضارة فى عالمنا العربى.. ربما لأننا نقرأ فقط التراجم الموجزة أو لأننا بحاجة إلى روح القراءة والوقت معا لننهل من أعذب المناهل فى علوم الإنسان والطبيعة.. لقد كانت رحلتى مع الوقت والطبيعة والسفر فى أروقة الماضى الجميل هو أكثر من مغامرة ورحلة فى لحظات شاهدت فيها من يحب تراثنا.