في أواخر عام1950 م اقتربت ساعة الرحيل والعائلة تبذل المستحيل لاخفاء مشاعرها المكبوتة التي تصل الي التوهان محمد الاسم الغالي سوف يغيب عنها لسنوات وهو الابن والأخ والأب بعد وفاة الوالد, تبتهل الدعوات بمستقبل وضاء لا يتحقق الا بالخارج. في الاسكندرية ركب صبري الباخرة يرافقه زميلان في البعثة, وما ان تحركت حتي تملكهم الخوف والتشهد, وبسؤال أحد البحارة عن هذه المرجيحة أسرع بإغلاق المنافذ وهو يتمتم رافعا ذراعيه ربنا يستر كانت ليلة ليلاء افرغ فيها صبري بقايا العشاء أما الزميلان فقد تماسكا وتحاملا في ثبات.. وتكررت الليالي ولا حيلة لهم. وصلت الباخرة الي مرسيليا وعلموا أن لديهم عدة ساعات يستقلون بعدها قطار الليل لحدود فرنسا ومنها الي مدريد.. ولأول مرة تخط قدما صبري ارضا أوروبية.. ارشدهم الدليل الي أماكن اللهو, احتوتهم الاضواء وازعجهم الضجيج اذهلتهم طرق الاثارة التي اذت عيون صبري واستعاذ بها من الشيطان كان اشبه بالريفي الساذج في زيارته الأولي للقاهرة.. اخذ يتحرك ببطء وكاد يفقد توازنه واصابة دوار مثل البحر بل يزيد, وسبل الاغراء تلاحقهم وتستدرجهم بعنف تقتلع الاعصاب وتستجدي المشاعر, حتي زاغ البصر أو كاد.. أعرض صبري عن هذا وبلط في الخط وبمنتهي المكر تمسح في ضيق الوقت. تحمل بهدوء بارد اشارات الزملاء بالتلميح واللمز علي تصرفه الخايب, والفرصة الضائعة, أخذ الوقت يساعده في الاقتراب والكل يخشي فوات قطار الليل ويحسبون له الف حساب.. وفي القطار غالبه النعاس وأفاق عند وصوله أخر المطاف. الحمد لله نطقها وهو يتنفس الصعداء وقد اكتسي كيانه فرحة غامرة( مدريد) الضياء والأمل.. تسربت الي جسده برودة الصباح وقبلت جبينه نسمة عابرة, في الفندق تصافحت الايدي الممتدة بكلمات الترحيب التي لم يفهم منها شيئا, بحثوا عن حقائبهم, فتأكدوا انها لم تغادر مكانها في مرسيليا.. لمحت عيونهم ان مشرفة الحجرات مسرفة الجمال فاقبلوا علي شنطهم الخاصة يتهجون ما يقع عليه البصر من قواميس اسبانية. واستبق كل منهم يلقي عليها ما أمكن استيعابه من مفردات المديح.. والمشرفة الجميلة.. تتوسطهم واقفة علي كرسيها العالي سعيدة بهذه المناظرة الغريبة, تفرق الجمع الي حيث دراساتهم الجامعية.. ارتاح صبري اثناء تجواله الي نظم المواصلات.. واسعده نظافة الشوارع لدرجة اللمعان.. كما اثار اعجابه رجل الشرطة واحترامه للافراد.. وصادف أن ضل الطريق فارشده من كتيب يشمل شوارع واحياء مدريد. وفجأة امتلأ الجو بالجليد واشتد السقيع وتحسس جسمه الضعيف واسرع الي أول متجر لشراء معطف فصدمه بابه المغلق لأن المتاجر ينتهي عملها في السابعة مساء حيث تتفتح أبواب السهر.. أخذته الدهشة حين وجد باب منزله مقفول ايضا وقبل ان يفيق من دهشته رد التحية الي غفير يقف أمامه بزيه الرسمي وهو في أدب حائر, ولما علم أنه ضيف جديد اصطكت في يده رزمة انفتح بها الباب ثم انصرف مسرعا بعد أن أغلقه. اصم اذنيه وهو في حجرته دوي عصا غليظة تضرب الأرض بشدة اعقبه صوت جهوري شق سكون الليل.. سرح بأفكاره مع الغفير( السيرينو) كما يسمونه وعصاه الغليظة وصوته الجهوري, وقارنه بغفير الدرك أثناء حراسته ليلا لاحيائنا وقرانا حيث تطلق حنجرته( نحنحة) كالرعد يخترق صداها عنان السماء, والأبواب التي تغلق علي المساكن في التاسعة مساء وتظل في حراسة( السيرينو) حتي الصباح وعلاقتها زمان بالبوابات الضخمة التي كانت توصد ليلا علي الحواري في احياء القاهرة القديمة لا شك أن الاسبان قد اكتسبوا هذا التدبير الأمني من وجود العرب في اراضيهم الي مايقرب من ثمانية قرون. دقت نواقيس الصباح معلنة أن اليوم الأحد.. انسابت خيوط الشمس تذيب ثلوج الأمس التي تتوج هامات الشجر الممتدة علي جوانب الطرق وكأنها رفيقات الفرح في ثيابها البيضاء واحواض الورود تغطي الممرات والناس باسمه ناضرة في غدو ورواح فاليوم لا بيع فيه ولا شراء وبدت مدريد فاتنة في ابهي زينتها كعروس حان زفافها حتي اذا قضيت الصلاة انتشرت العائلات هنا وهناك.. في الميدان الكبير( بلاثامايور) تتجمع هواة الطوابع والعملات النادرة, ولا موضع لقدم في سوق الكانتو( الراسترو) حيث يوجد ما يخطر وما لا يخطر علي بال وتجتذب الحدائق عشاقها وأهمها حديقة( الرتيرو) المفرطة في الاتساع والاستمتاع.. يهرع اليها الصغار والكبار ينعمون بالصفاء والطبيعة المسرفة في العطاء. يقع محبو الفنون في حيرة الاختيارات ففي مدريد30 متحفا تفتح ابوابها مجانا ايام الاحاد, واشهرها( متحف البرادو) ثاني متاحف العالم بعد متحف اللوفر في باريس. اشتاق صبري لرؤية( فيلاسكيث) فنان اسبانيا العبقري, وفي رحاب المتحف أخذ السكون يخيم علي الزائرين وكأن علي رؤوسهم الطير فلا يسمع إلا همسا. وتأمل الفتاة الأسبانية وهي في أكمل اناقتها في صحبة فتاها وهما يتناجيان( وصيفات الشرف) اروع روائع فيلاسكيث حيث شغلت اللوحة الكبيرة قاعة مستقلة في مواجهتها مرآة واسعة تنعكس كاملة عليها وتتوسط اللوحة الأميرة الصغيرة( مرجريت) يحيط بها وصيفاتها ووقف فيلاسكيث شامخا في المرسم الملحق بالقصر الملكي وقد سجل في مرآة صغيرة الزيارة المفاجأة للملك( فيليب الرابع) والملكة( ماريانا دي اوستريا).. أي تكريم للفن حضور الملكين مرسم الفنان.. اعلنت الاجراس نهاية الميعاد ومازالت الفتاة الاسبانية وفتاها يتناجيان مع( وصيفات الشرف) وقبل أن يغادر صبري الباب الرئيسي للمتحف القي تحية الي فيلاسكيث التمثال الرابض امامه وهكذا تلاحقت الصور وتزاحمت الذكريات منذ خطت قدماه ارض مدريد مع الفجر.