قالها نابليون بونابرت القائد الفرنسى الشهير قديماً؛ فأخطر تحد يواجه المنتصر هى لحظة الانتصار، تلك هى النقطة الفارقة، فإن أحسن استغلالها وتصرف أثناءها بحكمة وموضوعية ووعى، وإلا فإن غمرة الانتصار وسكرة التفوق ونشوة الظهور ستطيح به وبما قدم من إنجازات. انتصرت الحركة الإسلامية، وهذا ليس معناه أننا ربحنا المواجهة وأنهينا الصراع وقدمنا كل ما لدينا وحققنا جميع أهدافنا، فلا يزال الطريق أمامنا شاقاً جداً وطويلاً. انتصرت الحركة الإسلامية فى موقعة الرئاسة ووصل أحد رموزها إلى أعلى مناصب الدولة وإلى كرسى الرئاسة بما يمثله من ثقل وما له من إبهار، وهذا ليس معناه أننا نكف عن العمل وعن السعى والكفاح والبذل والعطاء وأن نعتمد على أوامر الرئيس وإشاراته التى ستصدر بلا شك لصالحنا! ليس معناه أننا نقوم سريعاً بعملية إحلال وإبدال فنجلس مكان السادة القدامى فى المكاتب المكيفة، وندور على استديوهات الفضائيات لتسلط علينا الأضواء، ونفرح بالمناصب الرفيعة والحقائب الوزارية، وتنعش غرورنا الوجاهة الاجتماعية! بل المفترض علينا - أن كنا نعى بالفعل ثقل المسئولية وحساسية المرحلة التاريخية - أن ننسى كل ذلك ونتخفف من كل ذلك، وأن نعود أقل تواضعاً وأكثر زهداً وتجرداً مما مضى. وأن نلتحم بالناس، نستنشق هواءهم ونأكل طعامهم ونرتدى ثيابهم، وتلتقط الكاميرات الصور فلا نخرج فى المشهد مختلفين عنهم فى شىء، فهذا ليس أوان الجلوس فى المكاتب والتأنق فى البذلات الثمينة والسيارات الفارهة، بل أوان النزول إلى الشوارع للعمل مع البسطاء والكادحين. أنا لا أخشى على هذا النصر من أحد أكثر من خشيتى من أنفسنا عليه. تعالوا نطل سريعاً على التجربة التونسية، وسؤالى هو: هل سيتكرر ما حدث من التيار والحركات السلفية التونسية مع تجربة حركة النهضة فى الحكم، فى مصر مع السلفيين والإخوان؟ إنه سؤال مشروع، خاصة وأن المجلس العسكرى سيعتمد فى الأساس فى المرحلة القادمة على هذا التفاوت بين المطالب وحدود المتاح لدى الرئيس الجديد ليقدمه لمختلف التيارات والقوى السياسية، وفى مقدمتها القوى الإسلامية الأكثر راديكالية بالمقارنة مع الإخوان – أن صح التعبير – والتى ساهمت بالدور الأكبر فى صعود الدكتور مرسى إلى سدة الرئاسة. لا شك ستكون هناك عقبات كثيرة وعوائق كبيرة لإظهار ما ينجزه الرئيس الجديد أقل بكثير من سقف طموحات عموم الحركة الإسلامية، تلك التى وصلت أثناء التحضير لجولة الإعادة إلى مستوى قد يدركه بعد زمن الرئيس الإسلامى العاشر بعد مرسى، وليس الرئيس الإسلامى الأول! فهل سيصبر سلفيو مصر وهل ستتحلى الحركة الإسلامية بمصر بالحكمة أم أنهم سيكررون أخطاء السلفيين فى تونس، مطالبين الإخوان والرئيس الإسلامى بالخلافة الآن، والحدود الآن، وفتح القدس الآن، ومنع جميع المنكرات الآن .. الخ ؟؟ هذا ما أخشاه فى مصر، أن تتحول الحركة الاسلامية والتيار السلفى إلى عائق ونقطة ضعف للرئيس الجديد، بدلاً من أن تكون عامل قوة، تساند القوة الناشئة وتدعمها وتحميها، مدركة حجم التحديات التى تواجهها . فى تونس نسوا أن من بذر البذرة الأولى للثورة ليس إسلامياً، وقد جاد بنفسه وأحرق جسده ليس للمطالبة بالشريعة والخلافة إنما لأسباب اجتماعية قاسية يحياها آلاف الشباب الفقراء والعاطلون فى الوطن العربى . محمد البوعزيزى البائع المتجول التونسى الذى أحرق جسده فى ديسمبر عام 21010م يرجع إليه فضل الثورة، ليس فى تونس وحدها، إنما فى تونس ومصر وليبيا وسوريا، وبعدها انتزع الشعب سلطة الحكم من الشموليين المستبدين ووضعوه أمانة فى أعناق الإسلاميين فى مصر وتونس والمغرب وليبيا، وما أثقلها من أمانة. علينا أن نتعلم من دروس الماضى وندرك جيداً فداحة الخطب وخطورة المرحلة وعظم الاختبار، فالجماهير قد تصبر مرة وتعطى فرصة مرة ومرتين، لكنها لا تصبر كل الوقت، وقد تسارعت لديها وتيرة التغيير والقابلية للثورة وانفجار الغضب، فلم تعد بالسنوات انما بالشهور . عليهم أن يدركوا أن تيمة الثورة قد عُرفت وحُفظت علامة وماركة مسجلة باسم محمد البوعزيزى وخالد سعيد، وهما بالأساس لا ينتميان إلى التيار الإسلامى أو إلى فكر أية حركة إسلامية. عليهم أن يعترفوا بأنهم أخطأوا كثيراً جداً طوال الفترة الماضية لحداثة عهدهم بالسياسة ولخروج مشروعهم السياسى من رحم المشروع الدعوى، الذى يختلف تماماً فى أولوياته وأبجدياته وخطابه وأهدافه عن المشروع السياسى، مما أدى إلى اضطراب المواقف وارتباك الخطاب وارتكاب أخطاء فادحة، خصمت من رصيد الاسلاميين الشعبى . أخطأوا فى الثقة المفرطة تجاه المؤسسة العسكرية مما ساهم فى تفكك الحالة الثورية قبل أن تعود إلى توهجها وألقها مع انتخابات الرئاسة، لتنطلق الثورة الثانية المكملة لأسباب قدرية أخرى متعلقة بالخوف من عودة الاستبداد والحكم الديكتاتورى، ليصلح الإسلاميون فى الحالتين هم المحضن والملجأ والملاذ، وليسوا نقطة الانطلاق. أخطأوا فى التلكؤ فى مسألة تطهير مؤسسات الدولة من الرموز الفاسدة المرتبطة بالنظام السابق، والظن بأن الانتخابات هى الحل الوحيد مما كرس من الخسائر فى اتجاه الاستقطاب الأيديولوجى والانقسام الثورى. أخطأوا فى الحديث المتسرع المتعجل عن أهداف مؤجلة كبيرة لا تعلن عنها إلا قوة إقليمية متوازنة لها مكانتها المرهوبة وكلمتها المسموعة، مما أدى إلى النظر المبكر لها كخطر على التوازنات الإقليمية والدولية القائمة، وليس كشريك يمكن قبوله من حيث المبدأ فى المعادلة . أخطأوا فى إقصاء الشباب الثورى والقوى الثورية التى كان لها الدور الأول والأهم فى الثورة وكان لهم نصيب الأسد من التضحيات، ورغم ذلك لم يحصلوا على شئ من المغانم والامتيازات . هذا أراه السبب الأكبر – مع الفشل فى طمأنة الكثير من التيارات والطوائف والقوى - فى النسب المتقاربة فى نتيجة الانتخابات الرئاسية فى الجولة الحاسمة، لأن نخباً غير محسوبة على الاسلاميين وليست مرتبطة بالنظام السابق أعطت منافس مرشح الثورة والاسلاميين صوتها خوفاً من الاقصاء وخطر الانفراد بالسلطة الذى قرأت بوادره فيما حدث مع الشباب والقوى الثورية، مما أظهر الإسلاميين – مع حملة التشويه الاعلامى – كأعداء للديمقراطية وكخطر ماحق على الدولة المدنية . الاسلاميون أولاً وأخيراً بشر يخطئون ويصيبون وليسوا ملائكة معصومين، لكن الأخطاء فى المرحلة القادمة ثمنها أغلى وأفدح . فلا يكونوا عوناً لغيرهم على أنفسهم، ولا ينساقوا إلى ارتكاب أخطأء صغيرة وتافهة يتمناها لهم خصومهم لتضخيمها واللعب عليها، وإحراز المكاسب المجانية بها . ليكونوا أكثر وعياً وادراكاً بخطورة وأهمية الفترة التاريخية التى نمر بها، تلك التى لا تتكرر كثيراً فى التاريخ الإنسانى، والتى سيصل تأثيرها إلى كل بيت عربى وسيمتد عبر عقود قادمة . لا تأخذهم العزة بالنصر ولا تغرهم قوتهم وكثرتهم وحضورهم الجماهيرى الطاغى . لا يجعلونا نتذكر حين نذكرهم ما قاله أبو حامد الغزالى فى الاحياء : " ان آخر ما يخرج من قلوب الصالحين حب الرئاسة". بل ليجبروننا على تذكر ذلك العبد الذى وعده رسول الله بمنزلة رفيعة فى الجنة مقابل المنزلة والمنصب الرفيع الذى تنازل عنه فى الدنيا تقديماً للمصلحة العامة : " طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه فى سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه ان كان فى الحراسة كان فى الحراسة وان كان فى الساقة كان فى الساقة". ليتواضعوا وليصبروا وليكونوا أكثر ذكاءً ورشداً وحكمة، فإن أخطاء المرحلة القامة قاتلة.