تمرّ القارة الإفريقية بمرحلة إعادة تشكّل عميقة، تتداخل فيها الانقسامات الداخلية مع صراعات النفوذ الإقليمي والتنافس الدولي على الموارد والممرات الحيوية. ويبرز القرن الإفريقي والبحر الأحمر بوصفهما مسرحًا مركزيًا لهذا التحول، حيث لم تعد التفاعلات الجارية محصورة في نطاقها الجغرافي، بل باتت تمس بشكل مباشر منظومة الأمن الإقليمي والدولي، وعلى رأسها الأمن القومي المصري. في قلب هذا المشهد، تحاول إثيوبيا إعادة صياغة دورها الإقليمي عبر سياسات توسعية تصطدم بواقع داخلي شديد الهشاشة. فالدولة الإثيوبية لا تزال تعاني من تفكك إثني عميق، وتوترات ممتدة في أقاليم حيوية، فضلًا عن آثار حرب التيغراي التي لم تُغلق ملفاتها سياسيًا واجتماعيًا. وعلى الصعيد الاقتصادي، أخفقت الحكومة في تحويل مشروع "سد النهضة" إلى محرك تنموي فعلي، ليغدو عبئًا ماليًا وسياسيًا أسهم في تآكل الثقة الشعبية وتصاعد السخط في الأطراف المهمشة. هذا التناقض بين الطموح الخارجي والقدرة الداخلية يفسر إلى حد كبير نزعة الاندفاع الإثيوبي في محيطها الإقليمي. محاولات التمدد داخل الصومال، عبر مسارات تلتف على الشرعية الدولية، شكّلت تهديدًا مباشرًا لوحدة الدولة الصومالية، وأعادت فتح ملف بالغ الحساسية يتعلق بتشجيع النزعات الانفصالية في منطقة تعاني أصلًا من هشاشة بنيوية. هنا برز الدور المصري باعتباره عامل توازن رئيسي، حيث تعاملت القاهرة مع الملف من منظور الأمن الجماعي، معتبرة أن المساس بوحدة الصومال يفتح الباب أمام فراغ أمني واسع قد يتحول إلى منصة للفوضى العابرة للحدود، بما ينعكس مباشرة على أمن البحر الأحمر. في هذا السياق المتوتر، لا يمكن التعامل مع التحركات الإسرائيلية تجاه إقليم «صومالي لاند» باعتبارها خطوة دبلوماسية معزولة أو بحثًا عن اعتراف رمزي. فالخطوة تندرج ضمن مقاربة جيوسياسية أوسع تستهدف إعادة ضبط موازين القوة في القرن الإفريقي والبحر الأحمر. يتمتع الإقليم بموقع استثنائي على خليج عدن وبالقرب من باب المندب، أحد أكثر الممرات البحرية حساسية في العالم، ما يمنح أي وجود مؤثر فيه قدرة مباشرة على التأثير في حركة التجارة الدولية وسلاسل الإمداد العالمية. من هذا المنطلق، تسعى إسرائيل إلى توظيف «صومالي لاند» كنقطة ارتكاز أمنية وعسكرية، سواء لمراقبة مسرح العمليات اليمني، أو ضمن شبكة أوسع للسيطرة غير المباشرة على أمن الملاحة. ويتقاطع هذا التوجه مع طموحات إقليمية أخرى، أبرزها السعي الإثيوبي للوصول إلى منفذ بحري دائم عبر ميناء بربرة، وهو ما يضيف طبقة جديدة من التعقيد إلى توازنات شديدة الحساسية تمس في جوهرها الأمن القومي المصري. ومع ذلك، يظل الاعتراف الإسرائيلي بلا قيمة قانونية حقيقية في ميزان النظام الدولي. فالشرعية لا تُمنح عبر اعترافات أحادية، بل من خلال توافقات مؤسسية تحكمها قواعد القانون الدولي ووحدة الدول. تجارب الانفصال غير المعترف بها تؤكد أن فرض الأمر الواقع لا يصنع دولة قابلة للحياة، وأن مجلس الأمن، بتوازناته الدقيقة، يشكل حاجزًا صلبًا أمام أي محاولة لشرعنة كيانات انفصالية، لا سيما في ظل تحفظات صينية وأوروبية واضحة خشية تفكيك القواعد الحاكمة للنظام الدولي. في الخلفية الأوسع، تتزامن هذه التحركات مع تصاعد الأزمات على امتداد الساحل الإفريقي، حيث تستغل التنظيمات المتطرفة ضعف الدول وانهيار مؤسساتها لتوسيع نفوذها. هذه التنظيمات لم تعد تهديدًا محليًا فحسب، بل باتت جزءًا من شبكة معقدة تتقاطع فيها المصالح مع تهريب الموارد والمعادن، ما يحوّل أجزاء من القارة إلى ساحات مفتوحة لصراعات غير مباشرة. ويترافق ذلك مع تنافس دولي محتدم على الموارد الاستراتيجية، من المعادن النادرة إلى ممرات الطاقة، في صراع تتصدره الولاياتالمتحدة والصين، مع أدوار روسية وأوروبية متفاوتة. ضمن هذا المشهد شديد السيولة، تتحرك مصر وفق مقاربة واقعية تعتبر البحر الأحمر والقرن الإفريقي امتدادًا مباشرًا لأمنها القومي. القاهرة لا تنخرط في مغامرات توسعية، لكنها ترفض أي ترتيبات تمس وحدة الدول أو تفرض وقائع جديدة تهدد توازنات الإقليم. هذا التوجه يعكس إدراكًا بأن الصراع الدائر في هذا الحزام الجغرافي هو في جوهره جزء من تنافس دولي أوسع، أمريكي–صيني بالأساس، فيما تبقى مصر لاعبًا معنيًا بالحماية والردع لا بالمواجهة المفتوحة. كما تدرك القاهرة أن الفاعلية الإقليمية لا تنفصل عن التماسك الداخلي، لذلك تواصل تعزيز ركائز قوتها الشاملة، اقتصاديًا وعسكريًا ودبلوماسيًا، بما يتيح لها إدارة ملفات معقدة في بيئة شديدة الاضطراب. فالجغرافيا تفرض حضور مصر في هذا المشهد، لكن كيفية هذا الحضور تظل محكومة بحسابات دقيقة توازن بين حماية المصالح وتجنب الاستنزاف. في المحصلة، ما يجري في القرن الإفريقي ليس ساحة بعيدة عن مصر، بل ساحة تعتبر فناء خلفي للدولة المصرية يجب التعامل معه باحترافية واستخدام الادوات بعناية شديدة، هو يمثل مسرح متداخل تُختبر فيه قدرة الدول على قراءة التحولات وحماية مصالحها دون الانزلاق إلى فوضى ممتدة. وبين طموحات غير محسوبة، وتنظيمات عابرة للحدود، وتنافس دولي محموم، تظل مصر لاعبًا محوريًا يسعى إلى تثبيت الاستقرار ومنع إعادة رسم خرائط البحر الأحمر والقرن الإفريقي على أسس تهدد أمن المنطقة لعقود مقبلة.