عاد الحديث مرة أخري عن أمن البحر الاحمر وأمن ممراته التي تربطه بالبحار الدولية المفتوحة. وهو حديث يختلف في مضمونه وفي أبعاده عن تلك الاحاديث والمشروعات التي طرحت لامن البحر الاحمر في سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي, حيث كان العنصر الحاكم هو تأمين المصالح العربية في مواجهة التهديدات الاسرائيلية في ظل حالة صراع مفتوح. اما الآن وبالرغم من ان الصراع مع إسرائيل لم تتم تسويته بعد بصورة شاملة, إلا أن غلبة النزعة للتوصل إلي تسوية سلمية ووجود مفاوضات مباشرة وغير مباشرة بين أطراف الصراع, تقلل من تأثير عامل الصراع مع إسرائيل وتفسح المجال أمام مصادر أخري من التهديدات التي تتناسب مع التطورات العالمية والاقليمية.
في حقبة الصراع المفتوح مع إسرائيل, كان الاهتمام العربي بأمن البحر الاحمر مسألة غير قابلة, للجدل, نظرا لاتصالها مباشرة بنظرية الامن القومي العربي التي تقوم علي ترابط مفاهيم الامن العربية الفرعية في سياق تكاملي يستدعي عملا جماعيا. وظهرت آنذاك دعوات لاعلان البحر الاحمر بحيرة عربية عارضتها إسرائيل وإثيوبيا في حينه, كما التأمت عدة قمم عربية ضمت قادة مصر والسعودية واليمن والاردن والسودان لاسيما في الفترة من1971 إلي1977 اهتمت جميعها بوضع استراتيجية عربية لجعل البحر الاحمر, ودون الاخلال بمصالح الدول الاخري المطلة عليه لاسيما اثيوبيا, منطقة أمن وسلام وتعاون اقتصادي بعيدا عن التدخلات الدولية المباشرة, وغير المباشرة, وكانت الامانة العامة للجامعة العربية قد طرحت فكرة انشاء قيادة عربية استراتيجية لامن البحر الاحمر في منتصف العام1977, غير ان التطورات اللاحقة جعلت من غير المناسب البحث في هذا الأمر.
وكان جل الافكار العربية المطروحة مستندا إلي حقيقة استراتيجية غالبة وهي ان البحر الاحمر يربط بين الامن القومي العربي وامن الدول العربية المطلة عليه وأمن منطقة الخليج, وان اي اخلال بأمن البحر الاحمر وأمن دوله العربية المطلة عليه سيؤثر حتما علي منظومة الامن العربي الجماعي.
وقد ظهر الترابط بين أمن البحر الاحمر وأمن الخليج زمن اشتداد الحرب العراقية الايرانية, وتحديدا في العام1984 حين قامت سفينة إيرانية بوضع ألغام في المسارات الملاحية الدولية في البحر الاحمر, وهو ما تطلب جهودا عربية ودولية لنزع تلك الالغام وتطهير طرق الملاحة الدولية.
بيد أن الحديث عن أمن البحر الاحمر من وجهة النظر العربية تراجع بعد العام1977, بفعل عدد من التطورات الكبري, منها مفاوضات السلام بين مصر وإسرائيل, والازمة السياسية التي تصاعدت في اثيوبيا زمن الرئيس منجستو والحرب الصومالية الاثيوبية1978, وتصاعد حركة التحرير الاريترية, ولذا بدا الامر مرهونا بالعلاقات الثنائية بين الدول المطلة علي البحر الاحمر, وقد ساعدت التطورات اللاحقة في منطقة القرن الافريقي بشاطئيه الافريقي والآسيوي علي أولوية النظر إلي البحر الاحمر باعتباره ممرا ملاحيا دوليا تحكمه معاهدات دولية جماعية, وان من مصلحة جميع الدول احترام هذه المعاهدات, كما غاب الحديث عن التعاون الاقتصادي بين الدول العربية المطلة علي البحر لاستغلال الموارد الاقتصادية القابعة في قاعه.
ومع دوران الزمن دورته, وتغير أحوال القرن الافريقي, وانهيار الدولة في الصومال, وعدم نجاح القوة البحرية الدولية المخصصة لمواجهة ما يعرف بالنشاط الارهابي في القرن الافريقي في الحد من عمليات القرصنة البحرية, أخذ أمن البحر الاحمر يستقطب مرة أخري الجهود العربية والدولية معا, وتتمثل أبرز مصادر التهديد الجديدة لأمن البحر الاحمر الآن في أمرين بارزين:
الاول: هو انتشار عمليات القرصنة التي يقوم بها القراصنة الصوماليون الذين يستفيدون من انهيار دولتهم وغياب سلطتها الحاكمة, ويوظفون سواحل بلادهم التي يصل طولها إلي3700 كم لصالح عمليات القرصنة والاستيلاء علي السفن أيا كانت جنسيتها وحمولتها, واحتجازها وطلب الفديات مقابل الافراج عنها.
ومن المفارقات اللافتة للنظر هنا أن عمليات القرصنة الصومالية زادت بقوة في العام2007, ثم ارتفعت في العام2008 وهما عامان يشهدان وجودا اثيوبيا عسكريا في الصومال بدأ نهاية العام2006 بعد دحر نظام المحاكم الاسلامية الذي كان قد سيطر علي الصومال منذ يونيو2006, وامتدت سيطرته علي سواحل الصومال حيث استطاع, رغم قلة الامكانات ان يوقف هذه الانشطة غير القانونية, والتي استعادت زخمها بعد هزيمة المحاكم امام الجيش الاثيوبي, والذي بدوره لم يستطع حتي الآن ان يحقق هدفه الرئيسي المعلن الذي كان قد برر به دخوله الاراضي الصومالية, وهو المساعدة في إعادة بناء الدولة ومؤسساتها الشرعية, بل اصبح هذا الوجود العسكري غير الشرعي عبئا علي الصومال وجهود المصالحة فيه, كما اصبح عبئا علي اثيوبيا نفسها التي ثبت ان سلوكها العسكري لم يكن له أية ضرورة حالة, وان نتائجه الكارثية أكبر مما كان متصورا.
الثاني: هو مساعي التدويل التي تسعي اليها بعض الدول, ومنها إسرائيل وإريتريا وأخري أوروبية لغرض معلن وهو ضبط حركة الملاحة الدولية في منطقة خليج عدن ومواجهة القرصنة الصومالية الجديدة, ولغرض غير معلن وهو وضع نوع من الوصاية الدولية الأولية علي البحر الاحمر وحركته الملاحية واستغلال موارده الطبيعية, وهو الامر الذي يخل مباشرة بالحقوق والمصالح المباشرة للدول العربية الست التي تطل علي البحر, وفي التطورات الاخيرة التي لاتخلو من مغزي ان ثماني دول أوروبية اتفقت علي تشكيل قوة بحرية مشتركة للعمل في منطقة خليج عدن لمواجهة القرصنة الصومالية, كما أرسلت عدة دول منها جنوب افريقيا والهند وروسيا سفنا حربية للعمل في المنطقة بغرض حماية السفن التجارية التابعة لهذه البلدان من القرصنة, كما تدعو بعض الدول ومنها الدانمارك إلي إنشاء وحدة جنائية خاصة في اطار المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة القراصنة الصوماليين, وغالب هذه التحركات يحدث بعيدا عن الاممالمتحدة التي تبدو في حالة سبات عميق, مما ينذر بتضارب مصالح كبير بين هذه الدول الوافدة علي المنطقة وبين الدول الاصيلة المطلة علي البحر لاسيما جنوبه.
هذان المصدران الجديدان للتهديد يكشفان طبيعة التحولات التي أصابت مفهوم أمن البحر الاحمر, كما تكشفان طبيعة التهديدات التي بات علي الدول العربية المطلة علي البحر التعامل معها بأكبر قدر من الحكمة والعمل الجماعي, والواضح ان نقطة البداية هنا هي السيطرة علي الوضع المتدهور في الصومال, وبما يسمح لاحقا بإعادة بناء مؤسسات هذا البلد, ومن ثم تحويله من نموذج لبلد فاشل فشلا ذريعا إلي بلد طبيعي يعرف التزاماته تجاه شعبه وتجاه المصالح الدولية المختلفة.
صحيح هنا أن كلا من الجامعة العربية والاتحاد الافريقي قد بذلا جهدا سياسيا من أجل تحقيق مصالحة بين الحكومة الانتقالية وبين جماعات المعارضة, لاسيما قيادة المحاكم الاسلامية, لكنها جهود لم تثمر شيئا ايجابيا, وكانت ومازالت عقدة الوجود العسكري الاثيوبي نقطة خلاف جوهرية انهارت بسببها كل محاولات اجراء مصالحة قابلة للتحقق, ومما يؤسف له ان دور الاممالمتحدة في معالجة الشأن الصومالي هو دور بلا معني أو قيمة, ولايتعدي التحركات الرمزية بين وقت وآخر, واذا قورن بالاهتمام المبالغ فيه بما يجري في دارفور, لأمكن القول ان غياب الاممالمتحدة عن الشأن الصومالي طوال عقد ونصف عقد به قصد منه إحداث تغييرات كبري في المنطقة.
إن المصالح العربية في البحر الاحمر, بما في ذلك سلامته وأمنه وإبعاده عن الوصاية الدولية, وتأمين ممراته, لاسيما باب المندب, هي مصالح استراتيجية غير قابلة للتنازل, واذا كان الاوروبيون قد بادروا بإنشاء قوة أوروبية تخصص للعمل في خليج عدن, فمن الاولي ان تبادر الدول العربية الخمس المطلة علي البحر الاحمر إلي وضع إطار عمل جماعي بحري لحماية المصالح العربية والتنسيق, وفقا للمعاهدات الدولية, مع تلك القوي البحرية الدولية التي تعمل وفقا لأولوياتها ومصالحها الخاصة.
فان لم يكن لدي العرب القوة الكافية لمنع القرصنة الصومالية أو غيرها, فعلي الاقل تكون جزءا عضويا من التحركات الدولية سواء تحت مظلة الاممالمتحدة أو وفقا لاية صيغة للعمل الجماعي العربي الدولي.