في شريط ذكرياتنا البعيدة، كان لموعد الغداء قدسية خاصة لا يجرؤ أحد على انتهاكها. كانت تلك الساعة التي تعقب عودة الأب من العمل وانتهاء اليوم الدراسي، حيث تجتمع الأسرة المصرية بكامل هيئتها حول "الطبلية" أو السفرة. في ذلك الزمن، لم يكن يقطع صوت الملاعق سوى أحاديث اليوم الدافئة، أو صوت الراديو الهادئ، وأحياناً تتر المسلسل العربي الذي تلتف حوله العائلة بعد الطعام. كانت تلك المائدة هي "منصة التواصل الاجتماعي" الحقيقية والوحيدة، حيث يقرأ الأب ملامح أبنائه، وتطمئن الأم على أحوال الجميع من نبرة أصواتهم، وتُحل المشكلات العائلية ب "لقمة هنية" تجمع النفوس وتذيب الجليد. اليوم، إذا اختلست النظر إلى نفس المائدة في بيوت كثيرة، سيصدمك مشهد مغاير ومقبض. الأجساد حاضرة، لكن الأرواح هائمة في عوالم افتراضية بعيدة. الأب يتابع رسائل العمل المستعجلة، والأم تتصفح صور حياة الآخرين المثالية، والابن يبتسم بصمت لفيديو قصير، واضعاً سماعات الأذن كجدار عازل يفصله عن محيطه. لقد حل الصمت المطبق محل ضجيجنا العائلي المحبب، ولم يعد يكسر هذا الصمت سوى أصوات إشعارات الهواتف التي لا تتوقف. هذا المشهد يجسد بدقة ما أطلقت عليه عالمة الاجتماع شيري توركل مصطلح "الوحدة الجماعية"؛ فنحن "معاً" جسدياً، لكننا لسنا "سوياً" شعورياً. لقد نجحت التكنولوجيا ببراعة مخيفة في تقريب البعيد، لكنها في المقابل نجحت في "تبعيد القريب"، لتحول الأسرة تدريجياً من "وحدة شعورية" متماسكة، إلى مجموعة من الأفراد يسكنون "فندقاً" واحداً، يتقاسمون الفواتير والجدران، لكنهم لا يتقاسمون اللحظة ولا المشاعر. وتكمن الخطورة الحقيقية لهذا الوضع ليس فقط في الجفاء العاطفي، بل في تآكل وظيفة الأسرة كمؤسسة للتربية و"الضبط الاجتماعي". قديماً، كانت جلسة الطعام هي المدرسة الأولى التي تُغرس فيها القيم، ويُصحح فيها السلوك، ويُسمع فيها صوت الشكوى والنصيحة. اليوم، تنازلت الأسرة طواعية عن هذا الدور، وأصبح "الإنترنت" هو المربي الأول، و"الخوارزميات" هي الموجه الخفي الذي يشكل وعي أبنائنا بعيداً عن أعيننا. نحن لا نطالب بمقاطعة التكنولوجيا أو العودة لزمن الحمام الزاجل، فهذا ضرب من الخيال، لكننا في أمسّ الحاجة إلى إعلان "هُدنة رقمية". نحتاج أن نستعيد "حرمة" المائدة، وأن نملك الشجاعة لوضع الهواتف جانباً لمدة نصف ساعة فقط يومياً. أن ننظر في عيون بعضنا البعض بدلاً من التحديق في الشاشات الباردة. فمهما كان العالم الافتراضي مغرياً وبراقاً، يبقى الدفء الحقيقي في تلك التفاصيل الإنسانية الصغيرة التي تتسرب من بين أيدينا ونحن منشغلون بتصوير أطباقنا بدلاً من الاستمتاع بمن يشاركنا إياها.