الشِعرُ ديوانُ العَرَب ............. أَبَداً وَعُنوانُ الأَدَب لَم أَعدُ فيهِ مَفاخِري ............. وَمَديحَ آبائي النُجُب وَمُقَطَّعاتٍ رُبَّما ............. حَلَّيتُ مِنهُنَّ الكُتُب لا في المَديحِ وَلا الهِجا ............. ءِ وَلا المُجونِ وَلا اللَعِب أبو فراس الحمداني لم يخطئ أبو فراس الحمدانى حين قال عن الشعر ووصفه بأنه "ديوان" العرب.. نعم استطاع الشعر أن يعبر عن الأجيال حاملاً وحافظًا معه إرث العرب، من علوم وفنون وأعراف وتقاليد، وهموم ولم لا؟ فهو كان مصدر المعرفة ووسيلة الترفيه الوحيدة في العصور القديمة حتى ظهرت السير الشعبية والتي كانت تقال شعرًا تحكي حكايات الأبطال وكيف خاضوا حروبهم، فد جسد الشعر تلك البطولات، دون منازع، وكان حفظ الشعر من أهم العادات التي كان العرب يتفاخرون بها، منه تخرج الحكمة والمعرفة والأخبار أيضًا، واتخذ الشعر مكانه لا يضاهيها أي من الفنون السردية الأخرى بين العرب. ونحن هنا لسنا في حاجة إلى الخوض في تاريخ الشعر والشعراء وأهمية الشعر بالنسبة للغة العربية وأهميته الكبرى في حفظها، فالشعر باختصار هو القدرة على توليد صور جمالية مكثفة في بضع كلمات صغيرة لكنها تستطيع أن تخترق جدار قلبك في لمح البصر وترى صورًا وتشكيلات فنية تشكيلة عن حياة ومشاعر هؤلاء الشعراء.. ومع تطور أدوات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي هل سيكون الشعر في خطر؟! هل يمكن أن يقوم الذكاء الاصطناعي بتوليد قصيدة عن الهجر والحب وعذاباته، هل سيمكنه أن يصنع مطولة شعرية مثل أبو فراس أو المتنبي أو امرؤ القيس أو عنترة ابن شداد، أو عمرو بن كلثوم أو عمر الخيام، أو ابن الرومي أو البحتري، أو أبو العلاء المعري، أو أحمد بن سيف الأنباري، وغيرهم كثيرون .. والسؤال هنا هل تستطيع أدوات الذكاء الاصطناعي مهما بلغت قدرة الإنسان على إعطائها من أوامر أو نمط إبداعي أن تخرج قصيدة بهذا العمق الإنساني الذي تنبض كل كلمه فيه بالحياة؟! يمكنك ببساطة أن تعطى أمراً لأداة من أدوات الذكاء الاصطناعي بعد مدها بأسلوب شاعر معين، أن تقدم لك على الفور قصيدة فتنخدع وتظنها من إبداع الشاعر الذى كنت تعنيه، ويمكنك أيضًا عمل الكثير والكثير من القصائد بنفس الأداة لكنها تظل مجرد كلمات رنانة منمقة تبدو جيدة إلا أنها لن تدخل قلبك كالسهم مثلما تفعله القصائد التي ولدت من عمق التجربة الإنسانية. ويبقى السؤال هل تستطيع أدوات الذكاء الاصطناعي أن تولد شعرًا يخلد الفترة الزمنية التي نعيش فيها الآن؟! فى هذه المساحة، ننشر ثلاثة آراء حول استخدام الذكاء الاصطناعي وعلاقته بحركة الشعر
======================= سعيد بنكراد يكتب: الذّكاءُ الاصطِناعيُّ ووَهمُ الشّعرِ لا يُمْكِن "لِلشِّعْر الافْتراضيِّ" أنْ يَكُونَ سِوى "مُحاكَاةٍ" مزيّفةٍ لِشعرٍ حَقيقِيٍّ مثلما أنّ "الزّمنَ محاكاةٌ مشوهةٌ للخُلودِ"
يُعتبرُ الذَّكَاءُ الاصْطناعيُّ آليّةً تواصليّةً جَديدةً تَهدفُ إلى محاكاةِ الذّكاءِ الإنسانيّ، يَستَنِدُ في ذلك إلى خوارزميات يَتمُّ تَطبيقُها في الفَضاءِ المعلوماتيّ. إنّه سلسلةٌ من عمليَّاتِ البرْمجةِ التي تَتمكّنُ من خلالها الآلَاتُ من القيَام بِمهامَ كثيرةٍ كَانَت تُوكَلُ قديماً إلى الإنْسانِ. يَشمَلُ ذلك سِجِلَّ الحركاتِ البسيطةِ التِي نَسْتعْملُهَا اليوْم بِشَكل آليٍّ في المنزلِ والسَّيَّارةِ والهاتفِ المحْمولِ وآلاتِ التحكّمِ عن بُعدٍ، أو نَستعملُها في أنْشطةٍ مُركّبةٍ تَقتَضِي بَرمجَةً عَالِيةَ الدقّةِ تَقُودُ إِلى صِياغةِ نُصُوصٍ اسْتنادًا إِلى كمٍّ هَائِلٍ من المعْطياتِ هي التِي تُغَذّيهَا وتتحَكَّمُ في تَنوِيعِ "سياقاتِ" تحقّقِها؛ فذاك هو الشَّرْطُ الضَّروريُّ لِلْحدِيثِ عن كِيَانٍ قَابِلٍ لِلْعزْلِ، كما هو الحالُ مع النّصوصِ الأدَبيّةِ. الشَّات جبت chatgpt ويُمثِّلُ الشَّات جبت chatgpt في هذا السِياقِ أرقَى النّماذج في تاريخِ الكتابَةِ القائمةِ على تَدبيرٍ افتراضيٍّ للخبرةِ الإنسانيّة. إنّه أداةٌ جديدةٌ في التّبادلِ الآليِّ مبنيّةٌ على وجودِ مصادرَ متنوعةٍ منها يَستمِدُّ أجوبتَهَ ورُدودَه. لذلك كانتِ اللّغة هي المادَّةَ المعْتمدَةَ عنده من أجلِ خلقِ حالةِ حوارٍ تفاعليٍّ بينه وبين مستعمِلِ الآلَةِ شبيهٍ بالحوارِ الواقعيِّ. إنّ اللّغة تَحضرُ فيه بِاعْتبارهَا مجموعةً من المَفاهيم المعزُولةِ، أو بِاعْتبارهَا سِياقَاتٍ مُسْتنْبتَةً بشكلٍ اصطناعيٍّ في ذَاكِرةٍ جَدِيدَةٍ هي ذَاكِرةُ الحاسوب. يتعلّقُ الأمرُ "بنَماذِجَ" مُوَجّهَةٍ إلى توْلِيدِ نُصُوصٍ مَخْصوصةٍ. إنّه بذلك قادرٌ على توليدِ مضامينَ تتميّزُ بقدرٍ من التّماسُكِ والانسجامِ. المركبات المسكوكة إنّ طاقتَه التّوليديّةَ والحواريّةَ كبيرةٌ جداً، فهو لا يَكتفي بالإجابَةِ عن أسئلةٍ تخُصّ راهناً أو ماضياً، بل يَستطيعُ أنْ يُحلّلَ ويتوقّعَ ما يُمكنُ أنْ يَحدُثَ استقبالاً. إنّه يتوفّرُ على نماذجَ جاهزةٍ مُتولّدةٍ عما يَتمّ تخزينُه في ذاكرةِ الآلةِ. وتتبلورُ هذه النَّماذجُ استناداً إلى وجودِ مَتْنٍ عريضٍ من النّصوصِ القبليّة تَتَضمَّنُ مفاهيمَ وصيغاً تعبيريّةً وصوراً بلاغيّةً جَاهِزة ومبادئَ ترْكيبيَّةً، ورُبما يتضمّنُ أيضاً بَعْض البناءاتِ النّصيَّةِ الجاهزةِ (ما يُطلَق عليهِ "المركّباتُ المسكوكةُ"). وتُعدُّ هذه البرْمجةُ الأسَاسَ الذِي يَعتمِدُه الذَّكَاءُ الاصْطناعيُّ من أَجْل تَقدِيم نَماذِجَ جَاهِزةٍ في الكتابةِ يُمْكِن أنْ يَستعِينَ بِهَا المستعملُ من أَجْل بناءِ قصائدَ لا تُنْسبُ إلى الشّاعرِ، بل إلى صوتٍ افتراضيٍّ قابلٍ لكلّ أشكالِ التّماهي. وبذلك لا يَكتبُ في حقيَقةِ الأمرِ شِعراً، إنّه يُرتّبُ الكلماتِ وَفق ما تَقتضيه رغباتُ "السائلِ"، إنّه يُلْغي بذلك الشّعرَ والشّاعرَ في الوقتِ ذاتِه. محدودية الذكاء الاصطناعي وقدرته الإبداعية وعند هذه النّقطةِ يتوقّفُ كلُّ شيءٍ. فقدرتُه التخزينيّةُ الهائلةُ هي ما يؤكّدُ في الوقتِ ذاتهِ محدوديّتَه من حيثُ القدرةُ الإبداعيّةُ، ومن حيثُ خصوصيّةُ فعلِ الإبداعِ اللّغويِّ ذاتِه. فهو في الأصلِ موجودٌ خارجَ "التّجربةِّ الشّعريّةِ"، فالذّاتُ القائلةُ في الشّعرِ لا تَكتَفي بصياغةِ حدودِ الانفعالِ في اللّغة، إنّها "تَعيشُه" ضمن "لحظةِ حالٍ" هي جوهرُ الشّعرِ وعَصبُه. إنّ "الجهازَ التِّقْنيَّ" لا يُمكنُ أنْ يَقولُ كُلَّ شَيْء عن حالاتِ النفْسِ، فهو عَاجِزٌ عن وَضْعِ الانْفعالِ في كَلِماتٍ تَلِجُ الحاسوبَ محمَّلةً بكلِّ طاقاتِهَا الدلاليّة. فَفي جميعِ حالاتِ الحوارِ الافتراضيِّ أو حالاتِ تَوليدِ نُصوصٍ في الشّعرِ أو القصّةِ سَتظَلُّ الانْفعالاتُ والأهْواءُ والرَّغباتُ والأحْلامُ خَارِج مُمكنَاتِ الخوارِزْمياتِ، وخارِج قُدْرتِهَا على صِياغةِ "كَلَامٍ" بِكْرٍ يُحيلُ على حُزْنٍ حَقيقِيٍّ أو فرحٍ حَقيقِيٍّ. فهذه الانفعالاتُ تكونُ، في سِيَاق الافْتراضيِّ دائماً، مُعدّلَةً ومُصفاةً ومُمَعْيرةً. إِنَّ البرْمجةَ تَنْزعُ عَنهَا كُلَّ ما يُخصِّصُ ويُحيلُ على ذَاتِيّةٍ مُتميِّزةٍ، إنّها ليستْ سوى محاكاةٍ مُصطنعةٍ لما سبَقَ أنْ تسلّلَ إلى الكلماتِ من تجربةٍ حقيقيّةٍ. إنّ المسافةَ بين الكلِمةِ وما تُسميهِ قصيرةٌ في الحاجة النّفعيّةِ، أما في الشّعرِ فممتدةٌ في الكَلمةِ ذاتِها. القدرة على بناء نصوص إبداعية تضاهي ما يكتبه الإنسان إِنَّ شَكْلَ البنَاءِ هذا وأسُسَه وَطَبيعَةَ اشتِغالِ عَناصِر تَكوّنِه هُما ما يُشكِّكُ مُنْذ البدايةِ في إِمْكانيَّةِ بِنَاءِ نُصُوصٍ إبداعيّةٍ تُضَاهي تِلْك التِي يُمْكِن أنْ يُنْتجَهَا كَائِنٌ كان يُسمَّى قديمًا شاعرًا أو رِوائيًّا. ذلك أنَّ الحاسوبَ يَضعُ بيْننَا وبيْن وَاقعِنا شاشاتٍ هي التِي تَقُوم بِغرْبلَةِ انْفعالاتِنا، إنّها تَتَصرَّفُ في مُجمَلِ أهْوائِنا التِي تَتَأبَّى في الغالبِ على النَّمْذجةِ والتّمثيلِ الكلّيِّ. إنّ النُّقْصانَ سِمةٌ رئيسةٌ في السُّلوكِ الإنسانيّ، ما يُصنَّفُ ضِمْن التَّرَدُّدِ والحيْرةِ والشَّكِّ والقَلقِ، أيْ ضمن كُلِّ ما يُمْكِن أنْ يُحيلَ على اللّامُتوقّع والتكهّنِ بكلّ أشكالِ تحقُقِه. إنّ الحاسوبَ قطعيٌّ في أحكامِه، إنّه لا يُنَسّبُ القولَ أو يُنوِّعُ من شكلِ حُضورِ قائلِه. أمّا الشّعرُ فرؤيا، إنّه ليس معنيّاً بالأحكامِ، إنّه "جوابٌ عن الكينونةِ"(هايدغر)، وبذلك يَتحدّثُ عن زمنيّةٍ أخرى غير تلكَ التي تُعاشُ في المألوفِ، إنّه أَرحَبُ وأوْسعُ من مُمكنَات الاحْتمالِ الافْتراضيِّ. ضياع الكتلة الإنفعالية إنَّ ضَيَاعَ "الكُتلةِ" الانْفعاليَّةِ وانتشارَها في دَوالِيبِ الافْتراضيِّ، يُعدّانِ دلالةً على انْفصالِنا عَما يُشكِّل هذه الانْفعالاتِ ذاتِهَا. فالخزّانُ الآليُّ يَضعُ للتّداولِ "كمّاً" هائلاً من الانفعالاتِ الجاهِزَةِ، إنَّه يَضعُها للتّسويقِ والاستعمالاتِ العامّةِ خارجَ حالاتٍ مخصوصةٍ للتلفّظِ. إنّنا نَعيشُ الانفعالَ داخلَ فضاءٍ مُغلقٍ؛ فلا أفُقَ له سوى نفسِه. إنّ الخصوصيّةَ فيه ليستْ في النّفسِ التي تَنفَعِلُ، إنّها مودعةٌ في الانفعالِ ذاتهِ باعتبارهِ كمّياتٍ قابلةً للقياسِ في وَضعياتٍ تُستَثارُ في الذّاكرة الافتراضيّةِ. إِنَّ الكَلماتِ في البرْمجةِ مَحدُودةٌ رغم وفْرتِها، مثلما أنّ السِّياقاتِ مَوجُودةٌ أيضاً، ولكنّها لا يُمكنُ أنْ تُوجدَ إلا في ما يُشكِّلُ ذاكرةً لا تَتَصرَّفُ إِلَّا في ما هو مُمْكِنٌ في عُموم تَجْربتِها. إِنَّ سِياقَاتِ الحاسوب لا تُعدُّ ولا تُحصى، أمّا سياقاتُ التّجربةِ الفرديّة فمحدودةٌ، وذاك ما يُشكِّلُ أصالتَها. إنّها لا تُدْرَكُ اسْتنادًا إِلى ترابطاتٍ لَفظِيّةٍ قَارَّةٍ، بل اسْتنادًا إِلى خِبْرَةٍ حَيَّةٍ يأْويهَا حَدْسٌ شِعْريٌّ مخصوصٌ. وَهو ما يَعنِي أنَّ الشّعر يُولَدُ ضِمْن خِبْرَةٍ إِنْسانيَّةٍ "حَقيقِيّةٍ" تَتَبلوَرُ ضِمْن مُمكنَاتِ شَرْطِ الإنْسانِ في الأرْضِ، يَتَعلَّق الأمْرُ بِاسْتثارةِ أَهوَاءٍ هي من صُلْب الاسْتعْمالِ الفرْدِيِّ لِلُّغةِ. إنّ الشّاعرَ يَنفخُ في الكلماتِ من روحِه لتُصبحَ قادرةً على استيعابِ الشّوقِ والتّوقِ والحيرةِ والتمزُّقِ داخلَه. البرمجة لا تنتج شعرًا لذلك لا تُنتحُ البرمجةُ المسبقةُ شعراً، كما أنّ الأفْكارَ لا تَصنَعُ شاعرًا، إِنَّ الشّاعرَ يُروِّضُ الكلماتِ ويُجبِرُها على التَّخَلِّي عن معانِيها المأْلوفةِ، إنّه يَدفعُها إلى التخلُّصِ من حَقائِق الأشْياءِ في الطَّبيعة لِيُسرِّب إِليْهَا حَقائِق تَختَفي في الظِّلَال الحسِّيَّة ِكما يلتقطُها وجدانُ المتلقِّي. فهذا يَبحَثُ فيهَا عن علاقَاتٍ قد يُنْكرهَا العقْلُ، لكِنّ الوجْدانَ يرى فيهَا ماوىً وملجأً وروحاً جديدةً تَحمِي الذّاتَ من صُرُوفِ الدَّهْر وعادياتِه. وكما أنَّ اللَّه قَادِرٌ على خَلْق كُلِّ شَيْء عدَا قُدرَتَه على خَلْق خَالِقٍ يُضاهيه في الخَلْقِ، فَإِنّ الذَّكَاءَ الاصْطناعيَّ يُمْكِن أنْ يُبْدِع كُلَّ شَيْءٍ عدَا العبْقريَّةَ، فَهي لَيسَت صِفةً من صِفَاتِ الآلَة، بل هي مَلكَةٌ من ملكاتِ الإنْسانِ وحْدَه. الشعر الافتراضي لِذَلك لا يُمْكِن "لِلشِّعْر الافْتراضيِّ" أنْ يَكُونَ سِوى "مُحاكَاةٍ" مزيّفةٍ لِشعرٍ حَقيقِيٍّ، مثلما أنّ "الزّمنَ محاكاةٌ مشوهةٌ للخُلودِ": إنّه الانْطلاقُ من عددٍ هَائِل من النَّماذج الشّعريَّةِ السَّابقةِ من أَجْل إِنتَاجِ مِئَاتِ القصائدِ بِنقْرةٍ فأْرةٍ. يَتَعلَّق الأمْرُ بِ"روبوتات" شِعْريَّةٍ لا تَختَلِفُ عن الرُّوبوتات الموجَّهةِ لِلْقيَام بِالمهامِّ المنْزليَّة. إِنَّها لا تُبْدِع إِلَّا ما سبقَ أن تعلَّمَتْه من النَّماذج التِي تُغذِّيها. وعلى عكس الشّاعرِ الذي يجب أنْ يَنسى ليَكتُبَ شعراً، فإنّ الحاسوبُ مجبرٌ على التذكّرِ دائماً. لذلك كان الشّعرُ إِبْدَاعاً لصُوَرٍ جديدَةٍ، إنّه اسْتعْمالٌ لِكلماتٍ بِطريقةٍ خَاصَّةٍ هي أَصْلُ الشّعرِ، إنَّه يَتَعامَل مع اللّغة خَارِج طاقاتهَا التَّعْيينيَّة، إنّه يفرضُ عليها التخلّصَ مما لَحِقَها من مَراجِعَ لا شيءَ يفصلُ بينها وبين الخبرةِ. إِنَّ الكلماتِ تَحضُر في النّصوصِ من خِلَال بُعْدِها الرمْزِي في المقَام الْأَول. * جزء من دراسة قدمها الدكتور سعيد بنكراد عضو لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية
======================== الشاعر أحمد حافظ يكتب: الشعر بين روح الإنسان وتروس الآلة ما عاد الحديث عن الذكاء الاصطناعي حكرًا على ميادين التكنولوجيا والبرمجيات، بل تمدّد ليخترق عوالم طالما عُدّت حكرًا على الروح الإنسانية وحدها، وفي مقدّمتها الإبداع الشعري. فقد أضحى الذكاء الاصطناعي قادرًا على محاكاة الشكل الشعري الموزون أو النثري، حتى ليكاد يختلط على القارئ ما إذا كانت القصيدة من نظم إنسان أم من إنتاج خوارزميات معقّدة. غير أن هذا التمكّن الشكلي لا يُخفي هشاشة البنية الشعورية، ولا ينقذ النص من أمارات الاصطناع. لقد بلغت تقنيات الذكاء الاصطناعي اليوم مبلغًا متقدمًا في تركيب الجمل الشعرية ضمن قوالب عروضية دقيقة، تتبع البحور الخليلية أو توظّف السرد الشعري النثري بنَفَس محسوب وعاطفة مصطنعة. ولقد أمكَنَ لتلك الخوارزميات، بفضل تدريبها على آلاف النصوص، أن تولّد قصائد تحمل الإيقاع، والصورة البلاغية، والتقفية، وتُحاكي تنويعات الأسلوب عند كبار الشعراء. وهكذا صار من اليسير إنتاج بيت لا يخطئ الوزن، ولا تنقصه المحسّنات، وقد يندهش القارئ ببعض التراكيب التي توهمه بوجود ذات شاعرة خلف النص. ومع ذلك، فإن هذه المحاكاة تظل تفتقر إلى حرارة وخصوصية التجربة الإنسانية، والنبرة الصادقة التي لا تُستعار. العودة لخزائن التراث وإحدى الوسائل التي يتوسّل بها الذكاء الاصطناعي لتوليد الشعر هي العودة لخزائن التراث، لا بوصفها استدعاءً وجدانيًّا، بل كمدوّنة ضخمة يمكن التنقيب فيها لاستحضار ألفاظ مألوفة، وصور مجرّبة، وأنماط تعبير محفوظة. وهنا تتجلّى براعة الخوارزميات في التوليف؛ إذ تُعيد تركيب المعاني القديمة، وتغزلها ضمن قوالب عروضية منضبطة، مما يُكسب النص ظلالًا تراثيةً قد تخدع القارئ وتُوهمه بعمقٍ ثقافي يظهر من خلال ذلك الاتصال الجماليّ بينه وبين التراث. لكنها تظل استعانة استهلاكية، خالية من التوتر الوجودي الذي كان يدفع الشعراء قديمًا إلى تمثّل التراث بوصفه هويةً وذاكرةً، لا بوصفه مخزونًا جاهزًا يُعاد استنساخه دون بث الروح الإنسانية في معانيه. فإذا كان الإنسان يُنتج الشعر مدفوعًا بوعيٍ وجودي وأسئلةٍ كبرى تَخِزُ أعماقه، فإن الذكاء الاصطناعي يعمل بمنطق الإحصاء والتماثل. الرؤية عند الإنسان تتولّد من اشتباك الذات بالعالم، من الألم، والدهشة، والرفض، والحنين، والتساؤل، بينما يظل الذكاء الاصطناعي خارج هذا الاشتباك، مُستمِدًّا لغته من سجلّات قديمة، ومعانٍ مكرورة. ومن هنا فإن محاولته في نحت معانٍ قديمة وتقديمها في قوالب جديدة تبدو أقرب إلى الاستجداء، الذي يُعيد تركيب الصور، ويُبدّل مواقع الألفاظ، ويستولد من المجاز القديم مجازًا مصطنعًا، يفتقر حرارة الكشف. وهكذا يكون النص الشعري الناتج عن الذكاء الاصطناعي عرضة لإعادة تصنيع الشعر لا إبداعه، الشعر شجرة حقيقية تنبض بالحياة، بينما الذكاء الاصطناعي -مهما بلغت مهارته- محاكاة بلاستيكية لهذه الشجرة. الشعر، في جوهره، ليس مهارة لغوية فحسب، بل هو اشتقاق من تجربة داخلية تُمارس وجودها في اللغة. حين يكتب الشاعر الحقيقي، فإنه لا يترجم أفكارًا، بل يفضح نفسه، ويعرّي روحه، ويدفع لغته نحو أقصى مدى جماليّ. هذه الأصالة في التجربة هي الصانع الأوحد للنبرة الشعرية الحقيقية. أما الذكاء الاصطناعي، مهما أجاد نظم الكلام، فلا يملك سوى أن يصطنع صوتًا لا يتّصل بجذر شعوري. إنه، في أحسن أحواله، مثل ممثّل بارع يقلّد البكاء، لكنه لا يبكي، ويصوّت للألم دون أن يعرفه. ومن ثمّ فإن العلاقة بين الاصطناع في الشعر والاصطناع في الذكاء تبدو وطيدة، لأن الفن الحقيقي وليد الابتكار، أما الاصطناع، فهو وظيفة الآلة. النقد الأدبي ومع ذلك، لا يمكن إنكار ما للذكاء الاصطناعي من فاعلية في مجال النقد الأدبي، لا من جهة الإبداع، بل من جهة التفكيك والاستيعاب. إذ يمكن لهذه التقنية، بفضل ما تختزنه من قاعدة معرفية ضخمة، أن تُنتج مادة نقدية متماسكة تستند إلى المدارس النظرية والمفاهيم التحليلية المتنوعة. ولأن النقد بطبيعته قائم على النظرية والاستنباط، فإن الذكاء الاصطناعي يجد لنفسه مكانًا بوصفه أداة للقراءة المنهجية وتعقّب البنية والإحالات. غير أن الشعر يظل أمرًا آخر، يظل تجربة فردية تنبثق من الحدس والذات والذكاء الإنساني الفذ، في لحظة توهّج لا يمكن برمجتها. الشعر هو استجابة الروح لصدمتها الأولى في الوجود، وهذه الصدمة، بما تحمله من فوضى وارتباك، تظلّ سرًّا لا تملكه أي خوارزمية، ولا تستطيع محاكاته آلة التكنولوجيا.
==================================
الشاعرة الجزائرية سمية دويفي تكتب: الكتابة فعل وجودي
تخلق المحاولات الأدبية المخيفة للذكاء الاصطناعي جدلا عميقا بمدى "منافسته" للأدب الإنساني، خاصة في ظل المبدأ الذي تسير به أغلب أنظمة الذكاء الاصطناعي القائمة على التطور الذاتي المستمر، والتعلم من التجارب البشرية في حد ذاتها ومحاكاتها، وقد شهدنا فعلا عديد النماذج الأدبية التي تشبه على مستوى عال النصوص الإنسانية بل وتثير الشبهة بالخلط بينها وبين نص كتبه إنسان، من حيث الجمالية العالية، و محاكاة الإحساس والعاطفة البشريين، والاشتغال المحبوك على النصوص، الناجم عن تعلم الآلة تقنيات كتابية عالية المستوى من نماذج إنسانية حفظتها في الذاكرة وحاولت محاكاة تقنياتها ومشاعرها ولغتها، ورغم أن احتمالية أننا قد نصل إلى اليوم الذي يحل فيه الذكاء الاصطناعي محل الإنسان أدبيا وفنيا ويحيل جميعنا كتابا وشعراء وفنانين على التقاعد القسري، تبدو مخيفة إلى حد ما، إلا أن هنالك احتمالا آخر أكثر خطورة بالنسبة لي، كقارئة قبل أن أكون شاعرة، وهو أن ينجح الذكاء الاصطناعي في كتابة نصوص مزيفة الإنسانية والجوهر، مزيفة الشعور والحس العاطفي، لكنها ولشدة إتقانها، تبدو حقيقية وإنسانية جدا، تنتشر على أنها من إبداع الإنسان ونقرؤها ونتلقاها ونحسها على أنها من إبداعه، تنتفي هنا عوامل سياقية مهمة جدا في تلقي الأدب، من أهمها في نظري العامل النفسي، وهو ما ينطلق منه الكاتب أو الشاعر لكتابة نصه في الأساس من مشاعر وحالة نفسية وتفاعلات عاطفية مع العالم والوجود، ويجعل المتلقي يتفاعل مع نصه بالدرجة الأولى، وهذا ينتفي تماما في حالة كتابة النص من آلة يستحيل أن يكون لديها أدنى تفاعل نفسي أو عاطفي مع الكون والحياة، ففي هذه الحالة يجد المتلقي نفسه يتعاطف مع نص غير صادق، غير حقيقي، لاعتقاده بأن النص كتب بالانطلاق من هذه المشاعر التي يستشعرها من خلاله، تختل هنا معادلة إشراك المتلقي في النص، وننتقل من رابط صدق بين النص والمتلقي إلى رابط خداع بين النص والمتلقي، إلى متراجحة غير عادلة من صدق المتلقي وكذب الكاتب، غير الموجود أساسا، باعتبار الآلة التي تقمصت دوره. المخيف في هذا الوضع ليس حالة الخداع التي يمكن أن تنتشر في الأوساط الأدبية ويروج من خلالها لنصوص كتبتها الأنتلجنسيا المزيفة باسم كتاب مزيفين، على الرغم من الرعب الذي قد يثيره هذا، ولكنه -المخيف فعلا- هو حالة التجريد من الإنسانية التي سنتعرض لها جميعا، التجريد من الهشاشة غير المعلنة في النص البشري، من حالة اللامثالية التي يكتب بها المبدعون الحقيقيون نصوصهم، من التناقض الشعوري والخصوصية اللغوية للنص الصادق، نحن هنا أمام خطر أكبر بكثير من مجرد إحالتنا إلى هامش التاريخ لصالح الآلات، نحن أمام إحالة التجربة البشرية بكل خصوصياتها الثقافية وتناقضاتها الشعورية على الإلغاء والتجاهل، لصالح النص الغريب عن بشريتنا وعن إنسانيتنا، والأكثر من هذا، أننا لا ندري في حقيقة الأمر إلى أي مدى نحن قريبون من هذا، وإلى أي مدى يهدف الواقفون وراء مشاريع الذكاء الاصطناعي الكبرى إلى ترسيخ هذا الوضع وتكريسه، لأسباب قوية وبسيطة جدا قد تكون متعلقة بالمال بالدرجة الأولى. المطمئن في نهاية المطاف أن الآلة سواء كتبت أم لا، نجحت في منافسة الإنسان أم لم تنجح، سيظل هذا الإنسان يحس، ويحب، ويكتب، ويظل النص البشري موجودًا ونابضًا، لأن الكتابة فعل وجودي، لا ينبع من محاولة إثبات شيء للآخر، بل من محاولة إثبات الذات أمام الذات قبل كل شيء، شيء يشبه الحب، والتنفس، والنظر إلى العالم بعين الجمال.