كانت البيوت تُضيء من الداخل لا بالكهرباء، بل بضوء اللمة، بدفء الحكاية، وصوت طبلية تجمع القلوب قبل الأيادي، كنا نلتف حولها كما تلتف الأرواح حول طيف الحب، نأكل ونضحك ونحكي، فلا يعرف الجوع إلينا طريقًا، ولا تدخل الوحشة بيننا ولو من ثقب إبرة. كان صوت محمد رفعت فجراً يوقظ فينا الطمأنينة، والمنشاوي يقرأ فترتجف الروح بخشوع، ثم يأتي الطبلاوي أو مصطفى إسماعيل كأنهم موسيقى الفجر السماوية أما النقشبندي وطوبار فكانا يمدان الفجر بأجنحة نور، ونمدّ نحن قلوبنا للسماء. كانت لمة المسلسل المسائي طقسًا مقدسًا، تجلس فيه الأسرة من دون اتفاق، وتضحك من مشهد، أو تبكي من جملة، ثم تبدأ الحكايات وتُسكب أكواب الشاي كأنها تفتح نوافذ القلب. لم نكن نحتاج كثيرًا لنفرح، يكفينا وجه يعرف وجوهنا، وصوت يعرف متى نحتاج إلى صمت، ومتى نحتاج إلى حكاية. ثم جاء زمن السكون الرقمي، فصار كل فرد في الأسرة جزيرة معزولة، يجلس ساعات أمام شاشة باردة، يضحك لإيموشن، ويواسي نفسه بلايك، ويشكو في جروب عائلي صامت. اختفت الحكايات، تبخرت رائحة الشاي من الجلسة، لم تعد الطبلية تجمعنا، ولا المسلسل يوحّدنا، صار الضحك افتراضيًا، والحنين مؤجلًا، والمشاعر رموزًا صفراء. ما أحوجنا إلى عودة اللمة، لا طبلية الأكل فقط، بل طبلية القلب، حيث الطعام مشترك والحديث مشترك والاهتمام مشترك، نحتاج إلى جلسة نطفئ فيها الواي فاي، ونشغّل فيها أنفسنا لبعضنا، نحتاج إلى لحظة صدق لا يعكّرها إشعار أو إشغال. فالعائلة ليست فقط من يسكن معنا، بل من يسكن فينا، وإن كانت التكنولوجيا قد قرّبت البعيد، فهي أيضًا قد باعدت بين من يجلسون على نفس الأريكة، فلنعد إلى حيث كنا، إلى دفء لم يكن من نار، بل من قرب.