هل هناك بداية واحدة، محددة، في مسيرة نجيب محفوظ؟ الإجابة عن هذا السؤال تستدعي التوقف عند ظاهرة مهمة، أساسية، حكمت مسيرته من أولها إلى آخرها: ليس هناك بداية واحدة في هذه المسيرة، وإنما هناك سلسلة متجددة من البدايات.. بعد وفاة نجيب محفوظ (2006) بعام، صدر العدد الأول من "دورية نجيب محفوظ" (وقد كانت ثمرة من ثمار مقترحات "لجنة تخليد نجيب محفوظ"، التي شكّلها ورأسها الفنان فاروق حسني وزير الثقافة آنذاك، وكان مقررها الدكتور جابر عصفور)، وكان المحور الأساسي لهذا العدد هو "الخطوة الأولى".. (التي تشير، بمعنى من المعاني، إلى البداية الأولى).. والتوقف عند هذه الخطوة الأولى في عالم محفوظ استدعى الاهتمام بمجموعة من الخطوات، وليس بخطوة واحدة، وهي خطوات يمكن ملاحظتها بسهولة.. سواء فيما يتصل بكتابات وإسهامات نجيب محفوظ الروائية والقصصية أو خارج الرواية والقصة، أو فيما يرتبط بالاستجابات المتنوعة لكتاباته، خلال نقد هذه الكتابات، أو ترجماتها، أو تحويل بعضها إلى أفلام سينمائية. في كتابات محفوظ المبكرة كانت هناك خطوات عدة، اهتم بها هذا العدد من دوريته خلال وقفات متنوعة، من بينها وقفة عند المقال الأول الذي كتبه ونشره محفوظ، والقصة القصيرة الأولى التي كتبها ونشرها، والكتاب الأول (والوحيد) الذي ترجمه ونشره (وهو كتاب جيمس بيكي "مصر القديمة")، ثم عند الرواية التاريخية الأولى التي كتبها ونشرها... ثم، في وجهة أخرى، كان هناك السيناريو الأول الذي كتبه، والترجمة الأولى لرواية من رواياته، والمقال النقدي الأول الذي كتب بالعربية عن عمل له، ثم المقال الأول الذي كتب عنه بلغة أخرى غير العربية، والكتاب النقدي الأول الذي صدر عن أعماله بالعربية، والكتاب الأول الذي كتب عنه بلغة غير العربية (وهو كتاب الأب جاك جومييه عن "الثلاثية"، وقد صدر بعد نشر الرواية بأعوام قليلة جدا).. وكذلك الفيلم الأول المأخوذ عن نص من نصوص محفوظ... إلخ. وهكذا توالت، في هذا العدد من "دورية نجيب محفوظ"، سلسلة متصلة من "الخطوات" أو "البدايات"، كلها بعيدة عما عرف، في زمن لاحق، ب"بدايات نجيب محفوظ المجهولة"، والمقصود بها بعض المحاولات المبكرة جدا التي كتبها أيام أن كان طالبا، ومنها أكثر من رواية عرضها على الأستاذ سلامة موسى ولم يرض عنها فتخلص منها محفوظ، ومنها أيضا محاولات أقدم، أيام كان تلميذا صغيرا، لكتابة "كراسات" كان يقلد فيها أعمال قرأها لبعض الكتاب، ولم ينشرها أبدا، ومنها كذلك مذكرات أو يوميات كتبها لنفسه، على الأرجح، ولم يفكر في نشرها.. وفي هذا كله، كانت هذه الكتابات متصلة بمحاولات محفوظ الصغير ثم الشاب لاستكشاف وتلمّس طريقه للكتابة.. فضلا عن هذه "البدايات" وتلك، في مسيرة محفوظ أو قبل أن تبدأ هذه المسيرة، وكلها يمكن فهمها بالمعنى القريب لكلمة "البدايات"، يمكن ملاحظة بدايات من نوع آخر، اقترنت بظاهرة عظيمة يمكن ملاحظتها في رحلة محفوظ الإبداعية الطويلة المتنامية والمتنوعة، التي نهضت على نوع من التجاوز الدائم، وتتمثل في الظاهرة التي توقف عندها كثيرون ممن كتبوا عن أعماله، وقاموا بتوصيفها بتسميات متعددة: "مراحل نجيب محفوظ"، أو "منظومات نجيب محفوظ".. وما إلى ذلك من تسميات.. وقصدوا بها النقلات الفنية الكبيرة في عالم نجيب محفوظ. بالطبع يمكن تفسير هذه الظاهرة بأن نجيب محفوظ كان متسائلا أبديا حول ما كتب وعما يمكن أن أن يضيفه إلى ما كتبه، وحول الطرائق الإبداعية التي مضى فيها والطرائق الجديدة التي يمكن أن يستكشفها ويمضي فيها، متجاوزا خلال ذلك ما استكشفه من قبل... وقد ترتب علىى هذا النزوع المتسائل حول التجربة، وحول إمكانات تنميتها، سلسلة من "النقلات" يمكن ملاحظتها في عالم محفوظ، وقد انطلقت كل نقلة فيها من "بداية" جديدة: هناك بداية مع الروايات التاريخية المبكرة في نهايات ثلاثينيات القرن الماضي ("عبث الأقدار" و"رادوبيس" و"كفاح طيبة")... وهناك بداية مع ما سمي "الروايات الواقعية" التي نشرها خلال الأربعينيات وحتى منتصف الخمسينيات (ومن بينها "خان الخليلي" و"القاهرة الجديدة" و"زقاق المدق" و"بداية ونهاية" وحتى "الثلاثية")... وهناك بداية المغامرة الإبداعية التي نهضت عليها "أولاد حارتنا"، خلال اعتماد شكل من أشكال "الأمثولة" وتجسيدها روائيا... وهناك بداية مع مجموعة الروايات التي كتبها خلال الستينيات (ومن بينها "اللص والكلاب" و"السمان والخريف" و"الطريق" و"الشحاذ")، وقامت على تجسيد قضايا عابرة للأزمنة، ومضت صياغاتها الفنية بعيدا عما تحقق في الروايات السابقة (حيث التركيز في هذه الصياغات على العالم الداخلي للشخصية المحورية، والتوسع في الانتقالات بين صوت الراوي وصوت الشخصية، واعتماد تقنيات مثل "تيار الوعي" الذي يستكشف روابط خفية فيما يبدو بلا رابط.. إلخ).. في نقلات تالية، ارتبطت ببدايات أخرى، كانت هناك روايات لمحفوظ تغامر بالمضي في وجهات فنية جديدة، مثل روايته "المرايا" (التي قامت على رصد عدد كبير من الشخصيات التي لها حضور مرجعي، خلال لقاءات جمعتها براوي الرواية، أو جمعته بها، في أزمنة وأماكن متعددة)، ومثل روايته "ملحمة الحرافيش" (التي جمعت بين جماليات الملحمة الشعرية وجماليات الرواية السردية، بعيدا عن التنظيرات النقدية المدرسية التي مايزت بين الرواية والملحمة)، ومثل روايته "حديث الصباح والمساء" (التي استلهمت وتمثّلت أدب التراجم القديم، وانبنت على ترتيب ألفبائي لعدد هائل من الشخصيات، تناسلت وتلاقت وتباعدت وتداخلت مصائرها عبر زمن طويل)، ومثل روايته "العائش في الحقيقة" (التي عاد فيها محفوظ إلى زمن عصر الأسرات القديم، ولكن بتقنية جديدة أقرب لشكل "الريبورتاج" الصحفي الذي ينهض على "تجميع" روايات وتصورات متعددة ومتباينة حول شخصية واحدة، هي شخصية أخناتون)، كما كانت هناك "النصوص الدرامية" التي كتبها محفوظ ونشرها في مجموعتين من مجموعاته، ثم أخيرا كانت هناك نصوص نجيب محفوظ القصيرة المختزلة، التي تنتمي إلى ما سوف يسمى "القصة الومضة"، ومنها نصوص القسم الثاني من مجموعته "رأيت فيما يرى النائم"، التي صدرت في نهايات الثمانينيات، ثم نصوصه "أصداء السيرة الذاتية"، التي صدرت في منتصف التسعينيات تقريبا، ثم نصوصه "أحلام فترة النقاهة" التي صدرت خلال هذه الألفية في جزئين، أحدها في جزء نشر خلال حياة محفوظ والآخر نشرته "دار الشروق"بعد رحيله.. وهذه النصوص القصيرة جدا تأسست على معالم جديدة في الكتابة، بعيدة عن كل المعالم التي وسمت كتاباته السابقة جميعا: الاختزال والتكثيف، والجمع بين الشعر والحكمة، واعتماد منطق الخلاصات، والصياغة التي تستند إلى التأمل، وتستدعي الكثير من التأويلات المتنوعة. في كل نقلة من هذه النقلات، كان نجيب محفوظ يبدأ بداية جديدة، يلوح معها وكأنه كاتب جديد.. وكأن هناك أكثر من "نجيب محفوظ" واحد.. أو كأن نجيب محفوظ، الكاتب الواحد، قد تناسل في مجموعة من الكتاب، لكل واحد منهم بداية جديدة.. تأسيسا على هذا، يمكن النظر إلى عالم محفوظ على أنه عالم البدايات المتجددة دائما.