يعد المواطن شريكًا أصيلًا فى بناء الوطن وصون مقدراته، ومحورًا رئيسًا فى مسيرة تقدمه ورقيه وازدهاره، فالدول تنهض بوعى شعوبها، وتصان بتكاتف أبنائها، وتحفظ مقدراتها بقدر ما يمتلك مواطنوها من إحساس بالمسؤولية واستعداد للمشاركة فى مواجهة التحديات، ومع ما يشهده العالم من تغيرات سريعة، وما تتعرض له المجتمعات من حملات ممنهجة تستهدف فكرها واستقرارها، تزداد أهمية وعى المواطن باعتباره خط الدفاع الأول ضد محاولات زعزعة الثقة وتفكيك الروابط الوطنية. وأخطر ما يهدد الأوطان اليوم ظاهرة الشائعات المغرضة، تلك الآفة التى تتسلل إلى العقول بسرعة، وتنتشر فى الفضاء العام عبر وسائل الإعلام التقليدية والمنصات الرقمية، لتصنع حالة من الارتباك والبلبلة، وتضرب فى قلب الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، والشائعة فى حقيقتها هى رسالة موجهة تحمل هدفًا خفيًا؛ إما لإثارة القلق، أو بث فتنة التى لا يعلم مداها حجم نتائجها السلبية إلا الله، أو إضعاف الروح المعنوية، أو التشويه، أو التشكيك فى الإنجازات والحقائق.
وتنعكس آثار الشائعات على شتى المجالات، فتنال من الاقتصاد بتضليل المستثمرين، وتربك الأسواق، وتؤثر فى العملة والأسعار؛ وتتراوح أثرها فى الجانب السياسى بين تشويه صورة الدولة وإضعاف هيبتها الخارجية، وتزرع الشك اجتماعيًا بين الأفراد وتفقد المجتمع لحمة تماسكه؛ وفى الجانب الأمنى تسعى الشائعات لزعزعة الاستقرار وإضعاف الروح الوطنية، كما قد تؤدى وفى المجال العلمى والصحى إلى تبنى معلومات خاطئة تضر بصحة الإنسان ومستقبله، وبالتالى تعد الشائعة تهديدًا حقيقيًا يقوض مسار التنمية، ويفتح أبواب الفوضى، ومن ثم تصبح مسؤولية الجميع تضافر الجهود لقطع دابر الشائعات، والحد من انتشارها، وإبطال مفعولها، وكشف مقاصدها الخبيثة
وتعد مواجهة الشائعة عملية متكاملة تتضافر فيها جهود المؤسسات، فالإعلام هو السلاح الذى يستخدم لنشر الحقيقة وتفنيد الباطل وتنمية الوعى، ومن ثم فإن دوره فى مواجهة الشائعات محورى، يتطلب تقديم المعلومات الدقيقة فى وقتها، وعدم ترك الساحة لصفحات مجهولة أو قنوات مغرضة تبث ما تشاء، كما يجب أن يعتمد الإعلام على الشفافية، وأن يطور أدواته الرقمية، وأن يخاطب الجمهور بلغة قريبة منه، مع تعزيز برامج التوعية الإعلامية التى تساعد المواطن على التمييز بين الخبر الصحيح والمفبرك.
كذلك من الأهمية توظيف التعليم فى بناء الوعى، فالمؤسسة التربوية مسؤولة عن غرس مهارات التفكير النقدى، وتعزيز القدرة على التحليل والمقارنة، وتحصين الطلاب ضد أساليب الخداع الإعلامى، كما تسهم الأنشطة الصفية وغير اللاصفية، فى تشكيل وعى رشيد يقاوم الانسياق وراء الشائعات أو المساهمة فى نشرها دون قصد، كما يمثل الدين ركنًا أساسياً فى الرد على الشائعات، فالمنابر الدينية تمتلك قدرة كبيرة على التأثير فى المجتمع، ومن ثم ينبغى أن تسخر لنشر ثقافة التثبت، والتحذير من نقل الكلام دون علم، استنادًا إلى قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ "سورة الحجرات – الآية 6"، والالتزام بهذه القيم الدينية جزء أصيل من مواجهة الحرب النفسية والإعلامية التى تستهدف الشعوب.
وتعمل المؤسسات الاجتماعية على نشر قيم التماسك والتعاون والتراحم بين أفراد المجتمع. فالمجتمع الذى يسوده التواصل الإيجابى والروح الجماعية أقل عرضة لاختراق الشائعات، كما أن الجمعيات والأندية والمراكز الثقافية تستطيع أن تنشر الوعى عبر برامج تدريبية وورش عمل تستهدف كل الفئات العمرية، كما أن الجهات الأمنية مسؤولة عن تطبيق القانون وردع من ينشر الشائعات بقصد الإضرار بالأمن القومى، فهناك فرق بين شخص ينقل خبرًا دون قصد، وبين آخر يتعمد تضليل الرأى العام، والقانون يضع حدودًا واضحة للتجاوزات، ويضمن حماية المجتمع من الاستغلال الإعلامى الخبيث.
وتعد الأسرة هى نقطة البداية والنهاية، حيث تتشكل القيم وتراقب السلوكيات ويدعم الوعى بشكل مستدام، فهى المدرسة الأولى التى يتعلم فيها الفرد القيم والممارسات السليمة، ومن هنا تنبع أهميتها فى تنمية وعى الأبناء، وتعليمهم التحرى، ومراقبة ما يتلقونه عبر الوسائل الرقمية، ومساعدتهم على تكوين موقف عقلانى تجاه ما يسمعون ويرون، والأسرة الواعية تبنى مواطنًا حصينًا أمام محاولات التأثير.
ولا بد من تبنى استراتيجيات وقائية وعلاجية تسهم فى القضاء على الظاهرة أو الحد من ظهورها، وتكسب المواطن وعيًا سليمًا يشكل جدارًا حصينًا فى مواجهة المنصات المشبوهة والموجهة التى تستهدف النيل من المجتمع وقضاياه، ويتطلب هذا جهودًا مؤسسية مخلصة تعمل وفق إجراءات واضحة تؤدى إلى نتائج ملموسة، فمن الواجب أن نتبنى ثقافة التثبت والتحرى فى كل ما نسمعه أو نشاهده أو نقرأه، فالبيئة الخصبة لانتشار الشائعة تقوم غالبًا على التزييف الجزئى، من خلال طرح جزء من الحقيقة يجمل بجزء من الكذب، فتبدو واقعية ومقبولة، ولا يثير الشك عند المتلقى، ومن هنا يجب ألا نكون أدوات لتمرير الشائعات أو ترويجها، عن قصد أو بغير قصد، وأن نتأكد من صحة أى خبر عبر مصادر موثوقة وموثقة وأن يتوافق الخبر مع العقل والمنطق، حتى نفقد مروجى الأكاذيب مصداقيتهم ونكشف نواياهم.
ويمثل الرجوع إلى أهل الاختصاص الإجراء الصحيح عند تداول أى شائعة فى أى مجال؛ فلا تؤخذ المعلومات من صفحات مجهولة أو تصريحات مبهمة، والمواطن الواعى يعرف أن الحقيقة عند مصدرها، وأن البيان الرسمى هو الوثيقة التى يعتمد عليها، وأن المؤسسات الحكومية تمتلك مفاتيح حقائق الملفات وتديرها، وتزداد هنا أهمية البيانات الرسمية التى تصدرها مؤسسات الدولة عند حدوث أى لبس، والتى ينبغى أن تتسم بالسرعة والوضوح والجاهزية للتصدى لأى مزاعم تستهدف تشويه الجهود المبذولة، وحتى لا يترك المجال للتأويل الخاطئ.
وينبغى تعزيز التفكير النقدى والتدبر قبل قبول أى معلومة أو نشر أى خبر؛ حيث إن سرعة انتشار الشائعة تقوم إلى حد كبير على المتلقين الذين يعيدون تداولها دون تمحيص أو تحقق، مما يهيئ بيئات ملائمة لانتشار الأكاذيب ويؤدى إلى أضرار جسيمة على الفرد والمؤسسة والمجتمع، ومع غياب الوعى يزداد منسوب التشويه وتوجيه الاتهامات وتلويث السمعة بلا بينة، لذلك يكفى لحظة تأمل قبل الضغط على زر مشاركة، لتجنب أزمة قد تهدد مجتمعا بأكمله؛ فالتفكير المتأنى والتحرى والتدبر قبل تداول المعلومة سلاح فعال لقطع الطريق أمام الشائعات وإحكام الحصانة المجتمعية ضد محاولات التضليل.
ويبقى الوعى الأخلاقى والدينى والوطنى هو الحصن الحصين وصمام الأمان فى مواجهة الشائعات وسياج منيع ضد محاولات العبث بمقدرات الوطن، فالأمم التى تحافظ على منظومة قيمها، وتتحلى بالمسؤولية والانتماء، تحجم قدرة أعدائها على اختراقها، والتمسك بالأخلاق النبيلة يمنح المجتمع مناعة طبيعية تمنع تسلل الأكاذيب، فالوطن لا يبنيه إلا أبناؤه، ولا يصونه إلا وعيهم، ولا ترتفع رايته إلا بمسؤوليتهم وإخلاصهم وحرصهم على أن تظل الحقيقة واضحة، والصف الوطنى متماسكًا، والسياج الأخلاقى والفكرى متينًا فى وجه كل محاولات التضليل والعبث بمقدرات الدولة.