يبدو الأمر في البداية بسيطا حين نحاول النظر إلى جيل جديد بوصفه ظاهرة اجتماعية تتكرر معها فكرة الفجوة بين الأجيال، لكن الأمر في واقعه أكثر عمقا وأشد وطأة، فجيل z ليس مجرد تكرار لتلك الفجوات الجيلية السابقة، وبالتالي فالأمر ليس قضية اجتماعية فحسب، لكنه قضية حضارية في المقام الأول يمكنها أن تناقش من زاوية تلك النقلة المعرفية التي تقع البشرية الآن في مفرق طرقها، ولذلك فإن التعامل مع الظواهر المتعلقة بهذا الجيل تحتاج إلى التأني والسرعة في الوقت ذاته، أما التأني فلكي لا نتعامل مع الظاهرة في صورتها السطحية ونبدأ برفضها، وأما السرعة فلأن معدل التسارع المعرفي قد أصبح فوق ما يمكن لأي عقل مفرد استيعابه. يمثل جيل Z المواليد بين 1997 و 2012، أو "المواطنون الرقميون الأصليون"، تحولًا جذريًا في المشهد الثقافي والاجتماعي، ولا يمكن اعتبار فهم السمات النفسية والثقافية لهذا الجيل خيارًا ترفيهيًا، بل هو ضرورة استراتيجية قصوى للمؤسسات الحكومية، لا سيما تلك العاملة في مجالي التعليم والثقافة، لضمان استمراريتها وفاعليتها في استيعاب ذلك الجيل وجذبه. إن تحليل ثقافة جيل Z يكشف عن ثلاث سمات محورية تشكل تحديًا للنموذج المؤسسي التقليدي، أولها سرعة الاستهلاك المعرفي، حيث يمتلك هذا الجيل مدى انتباه أقل للمحتوى الطويل مقارنة بالأجيال السابقة، وهو ما يقترن بمهارة عالية في معالجة كميات كبيرة من البيانات بسرعة فائقة، إنهم يفضلون "الوجبات الخفيفة" المعرفية على "الولائم" النصية أو السردية الطويلة. أما السمة الثانية، فهي تقدير الأصالة والشفافية، لقد نشأ هذا الجيل في بيئة رقمية تُمكّن من الوصول السهل إلى الحقائق والتناقضات، ونتيجة لذلك، فإنهم يقدرون الأصالة في الخطاب المؤسسي، وينفرون من المجازات واللغة الخطابية العامة التي يفتقرون إلى مصداقيتها، ويطلبون الشفافية في التعامل، مما يتطلب لغة تواصل مباشرة وموثوقة، وتأتي السمة الثالثة والأخيرة، وهي الميل إلى التخصص والتفاعل حيث يميلون إلى التعلم المخصص والذاتي عبر الإنترنت، ويفضلون المنصات التفاعلية التي تتيح لهم المساهمة الفعالة في بناء المحتوى والخدمة بدلاً من مجرد استقبالها بشكل سلبي. لذلك يقع على المؤسسات التعليمية والثقافية واجب التكيف من خلال محاور عملية محددة، حيث إن التعامل مع جيل Z بمنطق "الصدام" أو محاولة "إعادة تشكيله" ليتناسب مع القوالب المؤسسية القديمة هو مسار غير مثمر علميًا وغير فعال عمليًا، فقد أثبتت التجربة أن مقاومة التغيرات الثقافية الجذرية تنتهي بعزلة المؤسسة عن الجمهور المستهدف، ولذلك، يجب الانتقال من المحاضرات والكتب الطويلة إلى المحتوى المُصمَّم على شكل وحدات معرفية صغيرة الحجم، مثل ورش العمل التفاعلية والوسائط المتعددة الغنية والمحاكاة الرقمية. كما يتطلب الوصول إلى هذا الجيل استخدام منصاتهم المفضلة (مثل منصات الفيديو القصير والمنصات التفاعلية) بلغة تتسم بالوضوح والإيجاز والابتعاد عن التكلف والتعميم، والأهم من ذلك، يجب البحث عن الأرضية المشتركة بين قيم جيل Z مثل الشمولية، والاستدامة، وريادة الأعمال، وبين رسالة المؤسسة الأساسية، فبدلًا من فرض قيم المؤسسة، يمكن للمؤسسات الثقافية، على سبيل المثال، استخدام التكنولوجيا لجعل التراث تفاعليًا ومناسبًا لثقافة المشاركة التي يعيشها هذا الجيل، كما يمكنها جذبه إلى هذه القيم عن طريق إشراكه في صياغة كود السلوك الرقمي المعتمد على الشفافية وحقوق الملكية. يبدو إذن أن نجاح المؤسسات في جذب جيل Z والحفاظ على ارتباطه بها يعتمد على مدى استعدادها لإجراء تصحيح هيكلي في الرؤية والمنهجية، وهي عملية تكييف منهجية يجب أن تبدأ بفهم عميق لاحتياجات هذا الجيل وطموحاته المتغيرة، وليس محاولة لإخضاعه لمنطق لم يعد صالحًا في العصر الرقمي.