نعيش مشهدا من التحول الرقمي العالمى جذريًا فى خريطة النفوذ، بين منصات التواصل الاجتماعي، فبينما يتراجع بريق فيس بوك الذي تصدر المشهد لأكثر من عقد، يواصل تيك توك صعوده المذهل ليصبح المنصة الأكثر تأثيرًا على سلوك وثقافة الأجيال الجديدة، خاصة جيل Z (مواليد 1997-2012) وجيل ألفا (مواليد 2010-2025). هذا التحول لا يرتبط بمجرد اختلاف في الأذواق أو تفضيلات الاستخدام، بل يعكس تبدلًا عميقًا في أنماط التواصل والمعنى الاجتماعي للهوية الرقمية لدى الأجيال الصاعدة. التحول من فيس بوك إلى تيك توك يمكن قراءته بوصفه انتقالًا من ثقافة "النصوص والمشاركات" إلى ثقافة الفيديو السريع والتجربة الفورية، ففي حين تأسس فيس بوك على نموذج المشاركة النصية، حيث يكتب المستخدم أفكاره وينتظر تفاعلات من شبكته الاجتماعية، يعتمد تيك توك على المحتوى المرئى القصير الذى يستهلك في ثوانٍ، لكنه يحدث تأثيرًا لحظيًا أكبر. جيل Z ، الذى نشأ في عالم رقمي متعدد الشاشات، لا يتعامل مع الكتابة بوصفها الوسيلة الأساسية للتعبير، بل يرى في الفيديو أداة أكثر صدقًا وسرعة وفعالية، فهم يفضلون الصورة على الكلمة، واللحظة الحقيقية على التدوين الطويل، ما جعل تيك توك البيئة الأكثر انسجامًا مع إيقاعهم النفسى والزمنى. لعل جوهر جاذبية تيك توك في خوارزميته الفريدة التي تدير صفح "For You"، وهي آلية ذكاء اصطناعي تقدم محتوى شخصيًا دقيقًا بناءً على تفاعلات المستخدم الدقيقة، ماذا يشاهد، ومتى يتوقف، وماذا يعيد تشغيله، تلك الخوارزمية لا تعتمد على "من تتابع"، كما في فيسبوك، بل على ما يثير اهتمامك فعليًا، لتخلق تدفقًا مستمرًا من المقاطع القصيرة التي تتناسب مع ذوقك دون مجهود بحثي، و بهذه الطريقة، يتحول التصفح إلى تجربة شبه لا نهائية، يغذيها شعور دائم بالمكافأة والاكتشاف، وهي سمة تجعل تيك توك أقرب إلى منصة "التحفيز اللحظي" أكثر من كونها أداة تواصل. أما فيسبوك، الذي بنى على فكرة الشبكات الاجتماعية الحقيقية، فيبدو اليوم أبطأ وأقل قدرة على إنتاج هذا النوع من الإثارة الفورية، ما يجعله في نظر الأجيال الشابة منصة "تقليدية: موجهة لزمن مضى. فبينما كانت المنصة في بدايتها فضاءً حرًا للتعبير، تحولت اليوم إلى ساحة مزدحمة بالإعلانات والمحتوى السياسي والإخباري، وهو ما يتنافى مع طبيعة جيل يبحث عن المتعة والسرعة لا الجدل والنقاشات، الأخطر أن فيسبوك أصبح في وعي الشباب منصة "الآباء والأمهات"، حيث يتواجد أفراد العائلة والمدرسون وزملاء العمل، و هذا الوجود الأبوي يفرض نوعًا من الرقابة غير المباشرة، ويقيد شعور الخصوصية والحرية الذي يبحث عنه الشباب في فضائهم الرقمي. وبينما يقدم فيسبوك صورة "الحياة المثالية" المليئة بالمقارنات، يعرض تيك توك حياة أكثر واقعية وعفوية، خالية من التجميل المفرط، ما يعزز الإحساس بالانتماء إلى عالم أكثر صدقًا وإنسانية. يمثل تيك توك اليوم نموذجًا جديدًا في علم الاجتماع الرقمي، إذ لم يعد مجرد منصة محتوى بل منظومة لبناء مجتمعات دقيقة ومترابطة حول الاهتمامات المشتركة، حيث يستطيع المستخدم أن يجد بسهولة مجتمعًا لمحبي العلوم، أو لتحديات الطهي، أو للثقافات الموسيقية الفرعية، أو حتى لمناقشات فلسفية عميقة. هذه القدرة على تشكيل "الميكرو-مجتمعات" تمنح المستخدمين شعورًا قويًا بالانتماء، وتعيد تعريف مفهوم التأثير على الإنترنت، ففي عالم تيك توك، يمكن لأي مستخدم أن يتحول إلى مؤثر إذا امتلك فكرة جذابة أو أداء صادق، وهو ما يكرّس ديمقراطية المحتوى، مقابل النخبوية التي باتت تميز المنصات الأقدم. صعود تيك توك لا يعكس مجرد تحولات في السلوك الرقمي، بل يحمل آثارًا اقتصادية وثقافية متشابكة، فالشركات والعلامات التجارية باتت تتجه إلى المنصة لأنها تمثل سوقًا هائلًا للأفكار والاتجاهات، يقودها جيل يحدد مزاج الاستهلاك العالمي، و من هنا، أصبح التسويق عبر الفيديو القصير أكثر تأثيرًا من الحملات الإعلانية التقليدية، ما أعاد صياغة مفهوم " القيمة السوقية للانتباه". على المستوى الثقافي، وضع تيك توك نظامًا جديدًا لصناعة الشهرة، التى لم تعد النجومية حكرًا على الفنانين والإعلاميين، بل متاحة لأى شخص يمتلك الكاميرا والشغف، فهو اقتصاد جديد يقوم على التأثير الفردي، يذيب الفواصل بين المستهلك والمنتج، ويجعل من كل مستخدم مشاركًا في إنتاج المعنى الثقافي. أعتقد أنه ما زال أمام فيس بوك فرصة لجذب الأجيال، لكنها تتطلب تحولًا في الفلسفة لا الشكل، فجذب تلك الأجيال لن تكون بإضافة خاصية جديدة أو واجهة أكثر أناقة، بل بإعادة التفكير في جوهر التجربة: البساطة، السرعة، والواقعية، لذلك يجب أن تتراجع المنصة عن هيمنة الإعلانات والخوارزميات المعقدة، وأن تعيد الاعتبار لفكرة "التواصل الحقيقي"، لكن بلغة أكثر توافقًا مع عقلية الشباب الرقمي. هذا التحول الرقمي لا يقتصر على المجال الاجتماعي، بل يمتد تأثيره إلى الإعلام التقليدي وصناعة الأخبار، فالأجيال الجديدة التي نشأت على تيك توك لم تعد تتلقى المعلومة عبر النشرات أو المواقع الإخبارية الطويلة، بل من خلال مقاطع قصيرة ومبسطة تمتزج فيها المعلومة بالترفيه، فقد أصبح الخبر بالنسبة لهم تجربة بصرية، لا فقرة نصية، ما يفرض على المؤسسات الإعلامية إعادة تعريف أسلوب السرد الإخباري ذاته، فالصحافة التي تريد مخاطبة هذا الجيل مطالبة بتبني لغة الصورة، والاختزال دون الإخلال بالمضمون، وتوظيف الخوارزميات لا لمحاربتها، بل لفهم منطقها والتفاعل معها. هذه مرحلة انتقالية حاسمة، تعيد رسم حدود التأثير الإعلامي بين غرف الأخبار ومنصات الفيديو، حيث لم يعد الانفراد بالخبر هو جوهر المنافسة، بل القدرة على روايته بطريقة تجذب انتباه جيل لم يعد ينتظر شيئًا طويلًا. في النهاية، لا يدور الصراع بين فيسبوك وتيك توك حول من يملك عدد المستخدمين الأكبر، بل حول من يمتلك روح الزمن، فجيل Z وألفا لا يبحثان عن وسيلة تواصل فحسب، بل عن فضاء يعكس هويتهما المتحركة والسريعة والمتحررة من القوالب، حيث انتقلت المعركة من "منصة النصوص" إلى "منصة الإيقاع"، ومن مجتمع العلاقات إلى ثقافة اللحظة. وربما سيأتى يوم يتراجع فيه تيك توك أيضًا لصالح منصة جديدة أكثر سرعة وتفاعلية، لكن المؤكد أن الأجيال القادمة ستواصل البحث عن تجربة رقمية تعبر عنها بصدق لاعن وسيلة تواصل فحسب، بل عن لغة جديدة للوجود.