في اللحظات التي تتشابك فيها السياسة مع الضجيج اليومي وينشغل الرأي العام بما يطفو على السطح تولد أحيانا أحداث كبرى تكاد تخفى عن العيون رغم أنها تحمل ملامح الغد. ما حدث في الضبعة هو واحد من تلك الأحداث التي تُكتب في سجل المستقبل لا في سجل الأخبار اليومية. فالمشروع النووي المصري لم يعد مجرد محطة لإنتاج الكهرباء بل أصبح تعبيرا ملموسا عن إرادة دولة قررت أن تعيد تعريف موقعها الإقليمي وقدرتها على توطين التكنولوجيا الثقيلة في زمن أصبحت فيه الطاقة أحد مفاتيح القوة الكبرى. ما يميز هذه اللحظة ليس الشكل الاحتفالي للمشهد بل قدرتها على كشف اتجاه جديد تتحرك نحوه الدولة المصرية اتجاه يربط بين العلم والسيادة وبين التكنولوجيا والسياسة العليا. حين تبدأ دولة في الدخول إلى النادي النووي السلمي ، فهي لا تبني منشأة فحسب بل تبني وضعا استراتيجيا جديدا. فالدول التي تمتلك القدرة على تشغيل مفاعلات نووية لا ينظر إليها العالم بالطريقة نفسها التي ينظر بها إلى دول تعتمد على السوق وحدها لتأمين احتياجاتها من الطاقة. المعادلة هنا واضحة: من يملك مصادر طاقة مستقرة يمتلك جزءا من حرية القرار السياسي ومن يستطيع تشغيل تكنولوجيا معقدة يصبح طرفا لا يمكن تجاوزه في النظام الدولي. الضبعة بما تمثله من قدرة إنتاجية عالية وتقنيات أمان متقدمة وعمق تكنولوجي هي في جوهرها مشروع يعيد بناء مفهوم الاستقلال الطاقي للدولة. فالعالم كله يعاني تقلبات أسعار الطاقة والحروب الاقتصادية ، وصراعات النفوذ حول الغاز والنفط. ومصر التي تمتلك اليوم شبكة متنوعة من مصادر الطاقة بين الغاز والمتجددة والنووي أصبحت في موقع يسمح لها ليس فقط بتأمين احتياجاتها لأجيال قادمة بل بتقديم نموذج دولة تستطيع إدارة مواردها بوعي استراتيجي لا يخضع لمزاج السوق. الأهم في هذا المشروع أنه لا يُقرأ فقط من زاوية الإنتاج الكهربائي رغم أنه يوفر طاقة مستقرة لعقود طويلة بل من زاوية إعادة بناء بنية علمية وصناعية داخل الدولة. فالبرنامج النووي المصري خلق منظومة كاملة من الخبرات ومدارس جديدة ومسارات مهنية لم تكن موجودة من قبل وفتح الباب أمام جيل يتربى داخل مشروع حقيقي ويكتسب مهارات لا تعلّمها الكتب وحدها. هذا الجيل سوف يكون هو الضمانة الحقيقية لاستمرار المشروع بعيدا عن التغيرات السياسية أو الإدارية لأنه يتشكل داخل مناخ معرفي جديد يعيد تعريف علاقة الدولة بالتكنولوجيا. ولا يمكن فصل ما يحدث في الضبعة عن التحولات التي تشهدها السياسة المصرية خلال السنوات الأخيرة. فالدولة التي تخوض مشاريع البنية التحتية العملاقة لم تكن تبحث عن إنجازات شكلية بل عن بناء قدرة وطنية قادرة على الصمود في عالم شديد الاضطراب. المشروع النووي يأتي ضمن هذه الرؤية: بناء ما لا يمكن هدمه بسهولة وتأسيس ما لا يتأثر بالأزمات العابرة. ففي عالم تتغير فيه خرائط التحالفات من عام إلى آخر، يصبح امتلاك التكنولوجيا المتقدمة أحد أهم ضمانات الاستقرار السياسي والاقتصادي. من الزوايا التي لم تأخذ حقها في النقاش العام أن المشروع النووي يمثل أيضًا تحولا في فلسفة الشراكة الدولية للدولة المصرية. فالشراكة هنا ليست علاقة طرف تابع بآخر مسيطر ولا هي صفقة مراهنة على ظروف سياسية مؤقتة بل هي علاقة تقوم على المصالح المتبادلة والندية الواضحة. مصر لم تدخل المشروع النووي باعتبارها دولة تبحث عن بديل طاقة فحسب بل باعتبارها دولة تعرف ما تريد وتدرك أن التكنولوجيا النووية ليست مجرد معدات بل منظومة سيادية يجب أن تُدار بعقل وميزان وحكمة. وهنا يكمن الفارق فالدول التي تُدار فيها الملفات العلمية الكبرى بمنطق اللحظة لا تستطيع بناء برامج نووية مستقرة. أما حين يتقدم القرار السياسي برؤية محسوبة ويستند إلى إرادة تنفيذ حقيقية فإن المشروع يتحول من فكرة إلى حقيقة ومن حلم مؤجل إلى واقع له وزن. وهذا بالضبط ما حدث في الضبعة: لم ينتصر المشروع لأن الظروف كانت مواتية بل لأن الإرادة كانت صلبة. يخطئ من يتصور أن مشروعا بهذا الحجم سيؤثر فقط على الصناعة والطاقة. فالمفاعل النووي المصري سيعيد تشكيل موقع الدولة في ملفات إقليمية تتجاوز منطقة الشرق الأوسط إلى إفريقيا وشرق المتوسط. فالدول التي تمتلك مزيجا متنوعا من مصادر الطاقة تصبح جاذبة للاستثمار وقادرة على بناء صناعات ثقيلة مستقرة وتستطيع التفاوض من موقع قوة في الملفات الاقتصادية. وهذا ما يجعل دخول مصر عصر الطاقة النووية خطوة تتجاوز معناها الفني إلى بعدها السياسي الأعمق. قد يسأل البعض عن المواطن البسيط وسط كل هذه التحليلات. والحقيقة أن المواطن سيشعر تدريجيا بالفرق مع استقرار الطاقة وتراجع الأعباء على الاقتصاد وخلق فرص عمل جديدة مرتبطة بتشغيل المفاعل وتوسّع الصناعات المرتبطة به. لكن الأهم أن قوة الدولة ستنعكس بطبيعتها على قوة المجتمع وأن قدرة مصر على الحفاظ على استقرارها الاقتصادي ستنعكس مباشرة على مستوى الخدمات والأسعار والمنظومة الاجتماعية ككل. في النهاية ما يحدث في الضبعة ليس مجرد تركيب وعاء ضغط أو تشغيل غرفة تحكم. إنه لحظة استعادة الدولة لحقها الطبيعي في امتلاك التكنولوجيا المتقدمة ، ولحظة إثبات جديدة أن المستقبل لا يُصنع بالشعارات بل بالقرارات التي تُتخذ في الوقت المناسب، وبالإصرار الذي لا يلتفت لضجيج السياسة ولا لتقلبات الرأي العام. هذه ليست قصة مفاعل… هذه قصة دولة قررت أن تكتب مستقبلها بيدها وأن تضع نفسها حيث يليق بها بين الكبار.