لم تكن زيارتي الأخيرة إلى الرباط مجرد عودة عابرة إلى مدينة زرْتها أكثر من مرة، بل كانت عودة إلى نفسي عبر شوارعها الهادئة، وأبوابها العتيقة، وملامحها التي بدت لي – للمرة الأولى – قريبة من أسئلتي الداخلية أكثر من قربها لخطواتي. عند بوابة الرباط تحديدًا، شعرتُ أنني لا أقف أمام معلم تاريخي، بل أمام مساحة مفتوحة للمراجعة، للمصالحة، وربما لرؤية العالم بصفاء نادر. لقد مررتُ عبر هذه البوابة من قبل، لكن هذه المرة لم تكن نفس البوابة، أو ربما لم أكن أنا نفس الشخص. كان في المكان شيء يخصّني… شيء يشبه ذلك الهدوء الذي يأتي بعد سنوات من الركض، حين يوقظك الحجر القديم على حقيقة أنك تحتاج أحيانًا إلى أن تتوقف، فقط لتسمع نفسك. تبدو بوابة الرباط اليوم كحدّ فاصل بين زمنين: زمنٌ محفوظ بين نقوشها المرينية وقبّة سمائها الأندلسية، وزمنٌ معاصر يتحرك حولها بسرعة المدن الحديثة. لكنها بالنسبة لي، كانت حدًا بين ذاتي القديمة وذاتي الجديدة؛ بين المرأة التي جاءت إلى الرباط سابقًا بعين المكتشف، وتلك التي تعود اليوم بعين الباحثة عن مساحة إنسانية تُنصت فيها لما تشعر به حقًا. في اللحظة التي وقفت فيها أمام البوابة، كان المشهد بسيطًا وعابرًا: سيارات تمر، سائحون يصورون، شارع لا تتوقف أنفاسه.. كل هذا بدا لي كأنه مسرح مفتوح لحياة كاملة، حياة لا تُرى إلا حين نتوقف لنفهم. ربما لذلك شعرت أن الرباط تكشف نفسها لي هذه المرة ببطء، كما لو كانت تقول:"لم تفهميني من قبل…" في تفاصيل المكان، لمست توازنًا دقيقًا بين الصمت والجمال، بين الهدوء والتحولات الكبرى التي تعيشها المدينة. الرباط في ظاهرها مستقرة وناعمة، لكنها في عمقها مدينة تُعاد هندستها كل يوم أكتشف جديد يضاف إلى جغرافيتها.. مع هذا، تظل بوابتها التاريخية ثابتة، لا تقاوم الزمن بل تتعايش معه؛ تترك الحداثة تجري حولها، بينما تبقى هي شاهدًا على أن الروح الإنسانية تحتاج إلى جذور، إلى لحظة اتكاء، إلى مكان نستعيد فيه قدرتنا على الإحساس. ربما لهذا السبب شعرتُ بأنني أكتشف الرباط لأول مرة، رغم أنني عرفتها واختبرتها سابقًا كثيرا. كل مدينة تمنحك وجهًا مختلفًا حين تعود إليها وأنت مُتغيّرة. وحين تغيّرتُ أنا، تغيّرت الرباط. أو هكذا على الأقل شعرت. لقد فتحت لي البوابة نافذة لا على المدينة فقط، بل على الجانب الإنساني في داخلي: إحساسٌ بأن الزمن ليس عدوًا، وأن المدن التي نزورها ليست مجرد جغرافيا، إنما مساحات نفهم بها أنفسنا عبر الآخرين، عبر تفاصيل صغيرة في الشارع، في ضحكة طفل، في ظلّ شجرة، و.. في بوابة تقف منذ قرون ولا تزال تهمس لكل من يمر: "مرحبًا بك… لا تخف من اكتشاف نفسك من جديد". في هذه الزيارة، كانت الرباط بالنسبة لي رفيقة طريق. مدينة لا ترفع صوتها، لكنها تُجيب. لا تفرض حضورها، لكنها تُشعرني أن حضورها في داخلي أصبح أعمق مما ظننت. لم تعد بوابة الرباط مجرّد معلم أثري يزيّن قلب العاصمة المغربية، بل أصبحت في ظل الأحوال المعاصرة فضاءً مختلفا. تتسم البوابة، بما لها من عمارة أندلسية، مغربية راسخة، بقدرتها على الاحتفاظ بثباتها في مواجهة زمن متسارع، تبدو اليوم وكأنها نقطة توازن بين هويةٍ تُعاد صياغتُها باستمرار ومشهد حضري يزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم. فحين يصعد الزائر درجات البوابة أو يعبر أقواسها، يشعر كأنه يتنقل بين زمنين: زمن الدولة المرينية التي شيدتها، وزمن آنيّ تتكثف فيه الأسئلة الكبرى حول مستقبل المدن العربية. في السياق الاجتماعي، تمثل بوابة الرباط رمزًا لاستمرار الذاكرة الجماعية في وجه التحولات الاقتصادية ونمط العيش الجديد. فالمدينة اليوم تشهد توسعًا حضريًا سريعًا، وصعود طبقات اجتماعية جديدة، وارتفاعًا في حضور الثقافة الرقمية. ورغم هذا، تبقى البوابة نقطة التقاء بين ساكنة المدينة وزوّارها؛ مكانًا يُمارس فيه الناس طقوسهم اليومية، من جلسات التصوير إلى التجمّعات الثقافية والفنية. أما في السياق السياسي والثقافي، فتتحول البوابة إلى مسرح مفتوح يرمز إلى انفتاح المغرب على محيطه الأفريقي والمتوسطي. فهي مدخلٌ رمزيّ لدبلوماسية ناعمة تبنيها الدولة عبر دعم الفنون، تنظيم المهرجانات، وإعادة الاعتبار للتراث المعماري. كل فعالية تُقام بالقرب من البوابة تُعيد تشغيل ذاكرتها وتمنحها معنى جديدًا في ظل اللحظة الراهنة. بينما تتسارع التحولات العالمية وتزداد التحديات المناخية والاقتصادية، تظل بوابة الرباط شاهدًا على صراعٍ هادئ بين التراث والحداثة. فهي تؤكد أن الحفاظ على التاريخ ليس فعلًا رجعيًا، بل ممارسة نقدية تعيد ربط المدينة بجذورها وتمكنها من مواجهة المستقبل بثقة. إنها ليست مجرد حجر قديم، إنها سؤالٌ مفتوح عن هوية مدينةٍ تتغيّر دون أن تفقد روحها. لهذا، حين غادرت البوابة، لم أتركها وراء ظهري. بل حملتها معي… كمساحة هادئة، كعتبة إنسانية، كتذكير بأننا نستطيع دائمًا أن نرى العالم وأنفسنا بشكل مختلف.