في قلب المتحف المصري الكبير، حيث يقف الزمن ساكنًا أمام عظمة الآثار، وحيث تنبض جدران الحجر بالحكمة القديمة، وقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في لحظة تأمل أمام تمثال للثالوث المقدس من منف، التمثال الذي يجمع بين الإله بتاح، والإلهة سخنت، والإله الشاب نفر توم. لم يكن المشهد بروتوكوليًا عاديًا، بل أشبه بمشهد رمزي جمع بين قارة تبحث عن جذورها، ورئيس يبحث عن معانٍ جديدة في حضارة تضرب بجذورها في أعماق الزمن. بين هدوء المكان، وتفاصيل النظرة، بدا ماكرون وكأنه يعيد قراءة التاريخ المصري من بوابة الفن، محاولًا فهم الحكمة المتوارية خلف تلك الوجوه الحجرية. اقرأ أيضا | صور| مشروع تطوير منطقة أهرامات الجيزة يرى النور لتقديم تجربة سياحية عالمية لحظة التأمل تلك لم تكن حدثًا عابرًا، بل باتت موضوعًا للتحليل والتأويل، فهل يمكن لتمثال مصري قديم أن يلهم زعيمًا غربيًا؟ وهل في ذلك التمثال ما يستحق هذا التوقف؟ نحن هنا لنبحث عن الإجابة من خلال الغوص في رمزية هذا الثالوث، وفهم أبعاده الحضارية، والفكرية، بل وحتى السياسية في سياق زيارة ماكرون. هذا التقرير يحاول الغوص في أعماق تلك الرموز، وفك شيفرة اللقاء بين الحضارة المصرية القديمة والفكر الغربي الحديث، حيث يتقاطع الفن بالسلطة، والتاريخ بالفكر، والتمثال بالسياسة، كما يأكده لنا في تصريحات خاصة ل "بوابة أخبار اليوم" دكتور الآثار المصرية وخبير التسويق السياحي محمد على حسن الشربيني . أولًا: مدينة منف... مهد التكوين والتقديس كانت مدينة منف، أو "من نفر"، من أقدم العواصم في تاريخ مصر، وتقع جنوبالجيزة، وقد عُرفت بأنها العاصمة الدينية والسياسية والإدارية لمصر الموحدة في بدايات التاريخ الفرعوني. لعبت المدينة دورًا محوريًا في نشأة الحضارة المصرية، وبرزت كمركز لعبادة الإله بتاح، خالق العالم وفق المعتقدات المصرية القديمة، والذي كان يُعبد إلى جانب زوجته سخنت وابنهما نفر توم. وصفها المؤرخون بأنها "قلب مصر النابض" و"مصنع الآلهة"، إذ كانت مركزًا لصناعة الفن والمعمار، وموطنًا لأهم المعابد والمؤسسات الفكرية في مصر القديمة. ولأن بتاح هو إله الحِرفة والتصميم والخلق بالكلمة، أصبحت منف مركزًا روحيًا وثقافيًا يعكس عظمة الروح المصرية في التعبير عن الكون والوجود. ثانيًا: الثالوث المقدس... بتاح وسخنت ونفر توم يتكوّن هذا الثالوث الإلهي من ثلاث شخصيات متكاملة، تمثل كل واحدة منها بعدًا من أبعاد الوجود: - بتاح: هو الإله الأعظم في منف، إله الخلق وصاحب الكلمة الخالقة، يمثّل الفكر المجرد واللغة الخالقة التي تُنتج العالم. غالبًا ما يُصوَّر كراهب ملتف بملابس ضيقة، يمسك بصولجان الحياة. - سخنت: زوجته، إلهة الشفاء والطب والأمومة والحماية، وتمثل الطاقة الأنثوية المقدسة. غالبًا ما تُصوَّر كامرأة ترتدي تاجًا على هيئة قرص الشمس تحيط به أفعى الكوبرا، وتحمل رمز العنخ. - نفر توم: هو الابن، ويمثل الشباب والتجدد والبعث، وغالبًا ما يُربط بزهرة اللوتس التي تنبت مع شروق الشمس من مياه النيل، ليكون رمزًا للحياة المتجددة. تكوّن هذه الشخصيات الثلاث مثلثًا فلسفيًا روحيًا يعبر عن الخلق والحماية والتجدد، وهي مبادئ لا تزال تحتفظ براهنيتها حتى اليوم في الفكر والفن والسياسة. ثالثًا: تمثال الثالوث... نحت الحكمة في الحجر التمثال الذي تأمل فيه ماكرون، والموجود في المتحف المصري الكبير، مصنوع من الجرانيت الوردي، ويعود إلى العصر المتأخر من الدولة الحديثة، ويتميّز بتناسق هندسي وروحانية عميقة. يجلس الآلهة الثلاثة جنبًا إلى جنب على كرسي واحد، بتاح في المنتصف، وعلى جانبيه سخنت ونفر توم، ما يعكس مركزية الفكر في الفلسفة المصرية القديمة. يتميز التمثال بتفاصيل دقيقة في تعبيرات الوجوه، وحركة الأيدي، ونقوش الصولجانات، مما يدل على براعة الفنان المصري في ترجمة الأفكار المجردة إلى أشكال ملموسة. إنه ليس مجرد عمل فني، بل "كتاب صامت" مكتوب باللغة البصرية التي تخاطب العقل والقلب معًا. رابعًا: بتاح... إله الفكر والكلمة وصانع العالم في المعتقدات المصرية القديمة، لم يكن الخلق مجرّد فعل مادي، بل فعل فكري ناتج عن التأمل والإرادة الإلهية. وهنا يظهر دور الإله بتاح كأحد أعظم التجليات للفكر الخالص؛ فقد آمن المصريون بأن بتاح خلق الكون بالفكر ثم بالنطق، أي أنه تخيّل الأشياء في قلبه (أي عقله)، ثم نطق بها فوجدت طريقها إلى الوجود. في نصوص «بردية ممفيس» أو «نصوص بتاح» الشهيرة، نقرأ أن "كل الآلهة نشأت من قلبه ولسانه"، ما يجعل من بتاح ليس فقط خالقًا للعالم، بل خالقًا للنظام واللغة والفن والحضارة. هذا المفهوم يضعه على قمة الفكر الفلسفي في العالم القديم، ويجعل من تمثاله أكثر من مجرد صنم؛ إنه رمز لفلسفة كاملة، تجسدت في هيئة بشرية، ثابتة، وهادئة، لكنها ممتلئة بالقوة الإبداعية. يرى بعض الباحثين المعاصرين أن ما فعله بتاح في الميثولوجيا الفرعونية يُشبه إلى حد بعيد فكرة "الكلمة الخالقة" أو "اللوغوس" في الفلسفة اليونانية، وأن هناك تقاطعات فلسفية بين فكر مصر القديمة والفكر الغربي الكلاسيكي، ما قد يفسّر جزءًا من تأمل ماكرون الطويل أمام التمثال، إذ لم يكن ينظر إلى تماثيل صامتة، بل إلى جذور الفلسفة ذاتها. خامسًا: ماكرون أمام الثالوث... حين يصبح التأمل قراءة في الهوية في مشهد التقطته عدسات الكاميرات داخل المتحف المصري الكبير، وقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون صامتًا أمام تمثال الثالوث الإلهي لمنف، متأملًا بتاح وسخنت ونفر توم. لم تكن مجرد لحظة تذوق فني، بل – كما وصفها محللون – لحظة رمزية ذات أبعاد ثقافية وسياسية وفلسفية، تتجاوز حدود الزيارة الرسمية إلى فضاء أوسع من القراءة الرمزية للهوية والدور الحضاري. في هذا الوقوف، نقرأ رسائل متعددة؛ فرئيس جمهورية يمثل إحدى أعظم الدول الغربية، يقف بإجلال أمام تمثال من حضارة أقدم من أوروبا نفسها بآلاف السنين. لحظة تعكس تلاقي الحداثة الغربية مع الحكمة الشرقية، وتُبرز التقاء الفكر الإنساني من ضفّتين مختلفتين من التاريخ. سادسًا: إيلون ماسك وإله منف... التكنولوجيا وحوار الحضارات في سياق مثير، تحدث رجل الأعمال الملياردير إيلون ماسك عن إله منف بتاح في أحد تصريحاته الشهيرة، ربطًا بعالم التكنولوجيا المتقدم الذي يعيشه اليوم. وقد أشار ماسك إلى أهمية الذكاء الصناعي والتقنيات الحديثة، ورأى في تمثال بتاح تجسيدًا للفكر العقلاني الذي يسعى الإنسان إلى تطبيقه في عالم اليوم، سواء من خلال الذكاء الاصطناعي أو تقنيات الفضاء. ماسك، الذي يُعرف بتوجهاته المستقبلية الثورية، يرى في إله منف، الذي يُعتبر إلهًا للحكمة والعقل، رمزًا يتناغم مع تطلعات العصر الحديث. ففي نظره، يمثل بتاح الشخص الذي يَحلُم بالتحكم بالعقل البشري، وربما هو مرشد لفهم العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا. ورغم الاختلاف الزمني والمكاني بين العصور القديمة والعصر الحديث، يبدو أن ماسك يربط بين العقلانية القديمة والتكنولوجيا الحديثة، حيث يرى أن الابتكار في العصر الحالي يعتمد على المنهج العقلي نفسه الذي كان يُجسّده بتاح في الحضارة المصرية القديمة. هذه التصريحات جعلت البعض يتساءل عن الروابط الخفية بين أقدم الحضارات وأحدث الابتكارات العلمية في العصر الحديث. كما عكس هذا التصريح من ماسك نظرة فلسفية عميقة تسعى إلى الجمع بين الماضي والحاضر، حيث يرى أن التكنولوجيا المعاصرة قد تكون، في جوهرها، استمرارية لفكر قديم، معززًا بذلك فكرة التفاعل المستمر بين الحضارات وتبادل التأثيرات الفكرية والثقافية عبر العصور. سابعًا: بين الماضي والمستقبل... التأثير المتبادل بين حضارة مصر القديمة والتكنولوجيا الحديثة إعلان إيلون ماسك عن إله منف وربطه بالتكنولوجيا المعاصرة يثير تساؤلات حول التأثير المتبادل بين الماضي والحاضر، ويعكس مدى تأثير الحضارات القديمة على التطور التكنولوجي المعاصر. فمن خلال النظر إلى الحضارة المصرية، يمكننا رؤية كيف كانت الفلسفة المصرية القديمة تركز على العقل والعلم والابتكار، وهي نفس القيم التي يُسعى إلى تجسيدها اليوم من خلال الذكاء الاصطناعي والتقنيات المستقبلية. التأمل في التأثيرات الفكرية بين الشرق والغرب ماسك في تصريحاته لا يقدم فقط فكرة مبتكرة تربط بين إله منف والتكنولوجيا الحديثة، بل يعكس أيضًا الفكرة الغربية التي تؤمن بأن فهم الماضي القديم يعد أساسًا لفهم المستقبل. وهذه الرؤية الاستشرافية قد تكون جزءًا من محاولات الغرب لاستعادة الحكمة الشرقية والدمج بينها وبين التطور التكنولوجي. فهل هذا يعني أن التقدم التكنولوجي في الغرب يعود إلى إرث فكري شرقي؟ أو أن التكنولوجيا الحديثة هي امتداد لفكر حضارات قديمة سعت إلى فهم عقل الإنسان والسيطرة على تفكيره؟ التكنولوجيا كمحفز للتجدد الثقافي الربط بين إله بتاح (الذي يعتبر تجسيدًا للفكر العقلاني) والتكنولوجيا الحديثة يمكن أن يُنظر إليه أيضًا من زاوية التجدد الثقافي، حيث يعتبر البعض أن التطور التكنولوجي في العصر الحالي يعكس استمرارية التراث الثقافي المصري الذي اعتمد بشكل أساسي على العقلانية في مواجهة التحديات. تكنولوجيا اليوم، مثل الذكاء الاصطناعي وتقنيات الفضاء، لا تختلف كثيرًا عن السعي المصري القديم لفهم الكون وتفسيره من خلال العقل والتقنيات المتاحة في ذلك الوقت. إعادة قراءة الهوية الثقافية في عصر الرقمنة ماسك، من خلال تصريحاته، يفتح نافذة جديدة لفهم الهوية الثقافية في عصر الرقمنة، حيث تتقاطع الفلسفة القديمة مع التكنولوجيا الحديثة. هذا التفاعل قد يكون خطوة نحو إعادة قراءة الهوية الثقافية في سياق العصر الرقمي، ويعيد التأكيد على أهمية الحفاظ على التراث الفكري القديم، والتأمل في كيف يمكن أن يساهم هذا التراث في حل مشاكل العصر الحديث، سواء على صعيد العلوم أو الفلسفة أو السياسة. قد يرى البعض في هذه اللحظة نوعًا من "البحث عن الجذور"، أو حتى "عودة الروح" إلى نقطة البدء الحضاري. فكما قال أحد المفكرين الفرنسيين: "لكي نفهم الغرب، علينا أولًا أن نقرأ الشرق". هذه الرؤية تنسجم مع فلسفة ماكرون التي كثيرًا ما تربط بين الثقافة والتاريخ والسياسة في خطاباته، فهو ليس مجرد إداري يدير دولة، بل قائد يسعى لرسم هوية فرنسية حديثة تحتفي بالمعرفة والانفتاح على الآخر.