جعل من القصيدة فضاء للحرية ومن اللغة مسكنًا جديدًا للإنسان في مواجهة خراب التاريخ.. أعاد تعريف الشعر ورأى في القصيدة سبيلًا لنجاة الإنسان من العدم ونافذةً مفتوحة على المستحيل لا يولد الشاعر في مدينةٍ مكتملة، إنه يُولد في هوامش الأرض، في الأمكنة التي تتداخل فيها الطبيعة بالعزلة، والحلم بالحرمان. هناك فقط يمكن للروح أن تصنع لغتها الأولى من الغبار والضوء. هكذا ولد علي أحمد سعيد إسبر (أدونيس) عام 1930 في قريةٍ صغيرة تدعى قصابين، بين غابات الزيتون وسواحل اللاذقية. بيتٌ طينيّ، سقفه من خشب التين، وجدرانه من ترابٍ دافئ يحتفظ برائحة المطر. في هذا البيت بدأت اللغةُ تتكوّن ككائنٍ حيّ في ذاكرة الطفل، قبل أن يعرف الأبجدية وقبل أن يرى المدرسة. كان والده فلاحًا بسيطًا، لكنه كان يحمل في صوته ظلّ الحكمة القديمة؛ حفظ القرآن، وروى لابنه قصص الأنبياء والفرسان والشعراء. فشبّ الطفل في بيتٍ فقير لكنه غنيٌّ بالكلمة. كان يسمع الآيات لا كواجبٍ دينيّ، بل كنغمٍ كونيّ. ومن هنا جاءت نبرته الشعرية الأولى: ليست نغمة الوزن، وإنما إيقاع الروح. في المساءات الريفية التي تفصل بين النهار والظلمة، حين تهدأ الماشية وتغفو الحقول، كان الطفل يجلس على عتبة البيت، ينظر إلى السماء الممتلئة بالنجوم، فيشعر أن هناك لغة أخرى تكتب فوقه لا يفهمها أحد. لم يكن يعرف آنذاك أنه سيتعلم لاحقًا أن يُترجم تلك اللغة الغامضة إلى شعر. ربما كانت قصابين، بطينها ونجومها، هي الجامعة الأولى التي تخرّج فيها أدونيس. فيها تعلّم الإصغاء، لا للناس وما وراءهم. كان الطفل مختلفًا عن أقرانه، قليل الكلام، كثير الشرود. كان يسمّي الأشياء بأسماء من صنعه. حين يرى غيمة، يقول "زهرة من ماء"، وحين يرى المطر يقول "كلام الأرض". كان يشعر أن اللغة اليومية عاجزة عن احتواء ما يشعر به. تلك الفجوة بين الإحساس واللغة ستظلّ جرحه الدائم، ودافعه الأبديّ للكتابة. في أحد نصوصه اللاحقة كتب: "كنتُ أرى اللغةَ قفصًا، فأردتُ أن أكون طائرها." في القرية لم تكن هناك مدارس نظامية. لكنه أصرّ أن يتعلم. كان يرافق والده إلى الجامع، يتعلم الحروف على يديه، ثم يحفظ القرآن كله قبل أن يبلغ الثالثة عشرة. تلك النشأة ستظلّ تسكن في بنية لغته إلى الأبد: في الجرس، في التكرار، في التركيب الموسيقيّ للعبارة، في حسّها الإيقاعيّ العميق. لكنه في الوقت نفسه بدأ يشعر بالتناقض بين القداسة والنشيد: كان يحسّ بالجمال أكثر مما يحسّ بالعقيدة. لم يرَ في النصّ القرآني تعاليم فقط، بل شعرًا مقدّسًا، وإيقاعًا كونيًا. ومن تلك اللحظة بدأ التحوّل الأول: من الدين إلى الشعر، من التلقين إلى الرؤية. في عام 1944، زار الرئيس السوري شكري القوتلي منطقة اللاذقية، وكان من عادة الأهالي أن يُقيموا له استقبالًا احتفاليًا. وقف الفتى النحيل ذو النظرة الغريبة وألقى قصيدةً ارتجاليةً أمام الرئيس والحضور. أذهلت القصيدة الجميع، فأمر القوتلي بأن يُمنح الشاعر الصغير منحة دراسية في مدرسة اللاذقية الوطنية. كانت تلك اللحظة بالنسبة لعلي أحمد سعيد بوابة عبورٍ رمزية من الهامش إلى المركز، من الطين إلى الحبر. ومنذ تلك اللحظة، بدأ الحلم يأخذ شكله الجديد: أن يترك الجبل وراءه ويصعد إلى مدينةٍ أكبر، إلى العالم. لكنه لم يكن يعلم أن الرحلة نحو المدينة ليست انتقالًا جغرافيًا فقط، بل تحوّلًا روحيًا، من بساطة الريف إلى أسئلة الفكر، من الأرض إلى اللغة، من الصمت إلى القصيدة. حين دخل المدرسة، اكتشف عالمًا آخر: الكتب، الشعراء، التاريخ، الفلسفة. هناك قرأ المتنبي والمعرّي، وبدأ يسائل كل ما تعلمه في القرية. كانت المدرسة أول احتكاك له بما يسميه لاحقًا "الواقع الموزون": عالم القواعد والأنظمة، حيث كل شيء له اسمٌ وحدّ. لكن روحه كانت تبحث عن ما لا اسم له، عن اللامحدود. قال في أحد حواراته بعد عقود: "كنت أهرب من المدرسة إلى البحر، أريد أن أتعلم من الموج أكثر مما أتعلم من المعلّم." لقد كان البحرُ هو الكتاب الأول الذي فتحه بإرادته. كل موجةٍ كانت بيت شعر، وكل أفقٍ كان سؤالًا. ومن تلك القراءات المائية الأولى، بدأ يتكوّن في داخله الحسّ بالتحوّل: أن الحياة ليست خطوطًا مستقيمة، إنها حركة لا نهائية بين المجيء والذهاب. بعد سنوات، انتقل الشاب إلى دمشق ليدرس الفلسفة في الجامعة السورية. كانت دمشق في خمسينيات القرن الماضي مدينة تتنازعها التيارات القومية واليسارية. هناك تعرّف إلى الفكر الحديث، قرأ نيتشه وهايدغر، وتأثر بالشعر الفرنسي الجديد، خصوصًا بودلير ومالارميه ورامبو. لكنه لم يتخلّ عن جذوره. ظلّ يحمل في أعماقه صوت القصابين، ورائحة الأب الذي يحرث الأرض، وصدى الآيات القديمة. لذلك كان أدونيس منذ بدايته تركيبًا معقّدًا من الشرق والغرب، من القرآن وهايدغر، من الحلاج ورامبو. هذا المزيج العجيب سيُصبح لاحقًا بصمته الخاصة: شعرٌ حديث في لغته، قديم في جذوره؛ عقلٌ نقديّ في الفكر، صوفيّ في الحسّ. حين كتب قصيدته الأولى للنشر، شعر أن اسمه الحقيقي لا يسعه. "علي أحمد سعيد" بدا له اسمًا ينتمي إلى النظام الأبويّ والدينيّ والاجتماعيّ الذي يريد أن يتحرّر منه. لذلك لجأ إلى الأسطورة. اختار اسم أدونيس، الإله الفينيقيّ الذي يُقتل ويُبعث من جديد كل ربيع. بهذا الاسم، أعلن ميلاده الرمزيّ. كان يقول دائمًا إن الإنسان لا يولد مرة واحدة، لكنه يولد كلما اكتشف نفسه. في نهاية الأربعينيات، رحل إلى بيروتالمدينة التي كانت يومئذٍ مختبر الحداثة العربية، حيث يلتقي الشعر بالفكر، والشرق بالغرب، والسياسة بالجمال. هناك سيبدأ أدونيس رحلته الحقيقية: ليس فقط في كتابة الشعر، بل في إعادة تعريف الشعر. كانت بيروت مدينة مفتوحة على الحلم، لكنها أيضًا مليئة بالانقسامات، بالصراعات، بالأصوات المتنافسة. وهناك وجد الشاعر المنفى الأول داخل اللغة: اكتشف أن العربية الجميلة القديمة لا تتسع للمعنى الجديد الذي يبحث عنه، وأن عليه أن يهدمها ليبنيها من جديد. لقد دخل بيروت لا بوصفه سوريًا يبحث عن عمل، بل كمن يبحث عن معنى جديد للغة. ومنذ ذلك الحين، لم تعد القصيدة عنده وسيلةً للغناء، بل وسيلةً للفكر، للحرية، للبحث عن الإنسان وسط الركام. كانت بيروت في منتصف القرن العشرين تشبه قصيدةً مفتوحة على كل الأصوات. مزيجٌ من الشرق والغرب، من المسيحية والإسلام، من الوجوديين الذين يرتادون مقهى "هورس شو"، إلى الشعراء الذين يتبادلون المخطوطات في المقاهي على رائحة القهوة والدخان. الصحف كثيرة، والمجلات تتوالد كالفطر، والكتب تُترجم من الفرنسية والإنجليزية، والفكر يشتعل في كل مكان. في تلك البيئة المضطربة، التقى أدونيس بالشاعر اللبناني يوسف الخال، الذي كان قد عاد من الولاياتالمتحدة متأثّرًا بالحداثة الشعرية الغربية. كان الخال يرى أن القصيدة العربية تحتاج إلى ثورة شاملة، وأن الشعر لم يعد يُقاس بالوزن والقافية، بل بقدرته على اكتشاف المجهول. وجد أدونيس في هذا الخطاب صدىً لما كان يبحث عنه منذ زمن: أن يُعيد كتابة اللغة لا وفق نحوها، بل وفق رؤياها. ومن هذا اللقاء، وُلدت فكرة مجلة "شعر" عام 1957. لم تكن "شعر" مجلة بالمعنى الصحفيّ، كانت بيانًا شعريًا وفكريًا يعلن الحرب على كلّ ما هو تقليديّ في الثقافة العربية. في افتتاحيتها الأولى كتب يوسف الخال: "نريد أن نعيد إلى الشعر العربي روحه التي ضاعت بين الخطابة والبلاغة." أما أدونيس، فكان يرى أن الشعر العربي القديم يعيش على "جثث الكلمات"، وأن اللغة التي تكرّر نفسها لا يمكنها أن تُعبّر عن إنسانٍ يعيش في القرن العشرين. كان الشاعر بالنسبة له "كائنًا كونيًا"، لا يتكلّم بلسان القبيلة، بل بلسان الوجود نفسه. فأطلق مع رفاقه في المجلة مشروعًا جريئًا: تحرير القصيدة من عمودها القديم، وإدخالها في فضاءٍ مفتوح من الرؤيا والتجريب. ما إن ظهرت أعداد "شعر" الأولى، حتى اندلع الجدل في العالم العربيّ. اتهمها المحافظون بأنها تغتال اللغة، وتخرّب الذائقة، وتستورد الحداثة من الغرب بلا جذور. بينما رأى فيها آخرون وفي مقدّمتهم أدونيس ضرورة تاريخية: لأن اللغة التي لا تُجدَّد تموت. كان يردّ عليهم قائلًا: "لا يوجد شعر عربيّ أصيل وآخر دخيل. هناك شعرٌ حيّ وشعرٌ ميت. وما نريده هو الحياة." لقد كانت معركة "شعر" أشبه بثورة فكرية، لكنّها لم تكن ثورة ضدّ التراث بقدر ما كانت ثورة داخل التراث. فأدونيس لم يقطع مع الماضي، بل عاد إليه ليُعيد قراءته. قرأ المتنبي والمعرّي والحلاج لا بوصفهم رموزًا، بل بوصفهم حداثيين قبل الحداثة، شعراء الرؤيا والتمرد والقلق الوجوديّ. حين نشر ديوانه "أغاني مهيار الدمشقي" عام 1961، بدا وكأنه يعلن ميلادًا جديدًا للشعر العربيّ. مهيار ليس شخصًا بعينه، إنه صوت الإنسان العربيّ الذي يريد أن يولد من رماده. في هذا الديوان تتداخل الذات بالمدينة، والأسطورة بالواقع، والشرق بالغرب، كأن الشاعر يعيد بناء العالم من الصفر. لقد كان مهيار صدى لروح أدونيس نفسه: الإنسان الذي هرب من قريته، ومن اسمه، ومن ماضيه، ليخلق ذاته بالكلمة. على مدى أعوامها، احتضنت المجلة أصواتًا ستُغيّر وجه الشعر العربي: خليل حاوي، أنسي الحاج، محمد الماغوط، شوقي أبي شقرا، فؤاد رفقة، بدر شاكر السياب، صلاح عبد الصبور، وغيرهم. لكنّ الحداثة التي نادت بها "شعر" لم تكن سهلة الهضم، فانهالت عليها الانتقادات من كلّ صوب. رأى فيها البعض "انفصالًا عن الأمة"، واتهمها آخرون "بالنخبوية والاغتراب". بعد سنواتٍ من الجدل والصراعات الفكرية داخل المجلة، ترك أدونيس "شعر" عام 1964 ليؤسس مجلته الخاصة "مواقف" عام 1968. كان يشعر أن المشروع الذي بدأه مع يوسف الخال لم يعد كافيًا، وأن الحداثة التي يريدها ليست فقط شكلًا شعريًا، بل رؤية فلسفية للعالم. في "مواقف"، اتسع أفقه ليشمل الفكر والسياسة والفلسفة، وصار يرى أن الشاعر يجب أن يكون ناقدًا للحضارة كلها، لا مجرد لغويٍّ مبدع. لم تكن حركة "شعر" و"مواقف" مجرّد مغامرةٍ أدبية، بل كانت تحوّلًا في بنية الوعي العربيّ نفسه. فقد غيّرت طريقة قراءة النصوص، وطرحت أسئلةً غير مسبوقة عن العلاقة بين التراث والحداثة، بين اللغة والسلطة، بين الشاعر والمجتمع. ورغم كل ما واجهه من رفضٍ وتشويه، استطاع أدونيس أن يُدخل القصيدة العربية إلى القرن العشرين حقًا، بعد أن كانت تعيش في قرونٍ مضت. حين نتأمّل شعر أدونيس، لا نقرأ مجرّد نصوصٍ لغوية، لكننا نشهد زلزالًا عميقا في بنية اللغة العربية نفسها. ذلك أن مشروعه الشعري لم يكن قائمًا على "تحديث الشكل" فحسب، بل على إعادة بناء العلاقة بين اللغة والكون. فالقصيدة عنده ليست استمرارًا لبلاغة الماضي، إنها هدمٌ خلاقٌ لها، نوعٌ من الثورة الشعرية الضرورية التي تجعل اللغة تستيقظ من سباتها الطويل. من يقرأ أدونيس قراءةً سطحية قد يظنّه شاعرًا للعقل، للشكل، وللحداثة بوصفها تمرّدًا فكريًا فقط. لكن ما يختفي خلف صرامة لغته وتجاربه الشكلية هو نزوعٌ صوفيٌّ عميق، نزوع نحو ما يسميه هو "اللامرئي"؛ نحو الجوهر الذي يسبح في ما وراء الكلمات، في صمتٍ أوسع من الكلام، وفي حضورٍ أعمق من الوجود المادي. فأدونيس، في جوهره، شاعر يسعى إلى تحرير الإنسان من أسر الواقع المبتذل عبر الصعود إلى مستوى الوجود الشعري، حيث تتحول القصيدة إلى تجربة ميتافيزيقية تُعيد وصل الإنسان بالعالم، لا عن طريق الإيمان الموروث، بل عبر الدهشة والرؤيا. منذ ديوانه أغاني مهيار الدمشقي، نلمح في شعره رائحة التصوّف، لا كموضوعٍ ولكن كأسلوب في الرؤية. فمهيار ذلك الكائن الرمزيّ الذي يتحدث بصوت أدونيس يعيش تجربة "الفناء في اللغة" ليولد منها من جديد. إنه لا يرى العالم إلا في حالة تحوّل دائم، كما يقول: "ما أضيق الأرض إذا لم تكن سماء." تلك النظرة الكونية، التي تتلاشى فيها الحدود بين المادة والروح، بين الإنسان والكون، هي جوهر التجربة الصوفية. في مشروعه الفكري، يقيم أدونيس صلةً مدهشة بين التصوّف العربي القديم والسريالية الأوروبية الحديثة. فكلاهما، في نظره، محاولة لاختراق الواقع عبر الحلم والرؤيا واللاشعور، وكلاهما تمردٌ على منطق العقل المجرّد. وفي هذا التقاطع، يجد أدونيس جوهر الشعر الحديث: أنه ليس وصفًا للواقع، بل كشفٌ عما يتجاوز الواقع. وهكذا، يلتقي الحلاج مع أندريه بريتون، ويلتقي ابن عربي مع لوتريامون، في فضاءٍ شعري واحد يتجاوز الزمان والمكان. منذ بداياته الشعرية، لم ينظر أدونيس إلى المرأة ككائنٍ آخر، ولكن كجوهرٍ كونيٍّ يُعيد التوازن للعالم. في شعره، ليست المرأة جسدًا أو معشوقةً، وإنما كلمةٌ أولى، وفي كلّ أنثى كما يرى تختبئ الأرض والماء والقمر والظلال، أي كلّ العناصر التي منها يتكوّن الكون. فالمرأة عنده ليست مرآةً للرجل، إنها مرآةٌ للكون. ومن خلال حضورها، يتصل الشاعر بجذر العالم، بالسرّ الذي يجعل الوجود حيًّا ومتجدّدًا. ولذلك، تبدو كلّ قصيدةٍ كتبها أدونيس محاولةً لاستعادة ذلك التوازن المفقود بين الذكورة التي تمثّل العقل، والأنوثة التي تمثّل الحدس والخصب والدهشة. لم يكتب أدونيس عن الحبّ بمعناه العاطفي المألوف. فهو لا يقول "أحبّكِ" بمعناها الرومانسي، وإنما بمعناها الكونيّ: أي أنه يحبّ في الأنثى قدرتها على فتح الوجود على احتماله. وفي هذا المعنى، تصبح المرأة أفقًا شعريًا لا ينتهي، لأنها تمثّل كلّ ما هو حرّ ومتحوّل ومليء بالدهشة. وكل ما هو أنثويّ عنده مرتبط بالتحرّر من السلطة، لأن الأنوثة في جوهرها رفضٌ للمركزية، واحتفاءٌ بالاختلاف. إنها لا تمارس الهيمنة، بل العطاء. ومن هنا جاء تمجيده للأنثى بوصفها نقيضًا للمجتمع الذكوريّ الذي أقام حضارته على القمع والسيطرة والخوف. هي رمز للحياة حين تُحاصرها العقول المغلقة، وللجمال حين يخنقه العرف، وللشعر حين يحاصره النثر العاميّ للعالم. إنها تمثّل الحرية نفسها، لأنها تمنح بلا خوف، وتتحوّل بلا قيود، وتعيش خارج المنطق الأبويّ الذي أراد للعالم أن يكون جامدًا ومحدودًا. إن مشروع أدونيس الشعري والفكري يمكن النظر إليه كرحلة دائمة من "الثابت إلى المتحول"، من السكون إلى الحركة، من النصّ إلى الرؤية. في كل مرحلة كان ينسف ما بناه ليبدأ من جديد، كما لو أن القصيدة كائن لا يعيش إلا في خطر الفناء. ولعل هذا هو سرّ بقائه: أنه لم يكتب ليؤرّخ، وإنما ليحيا في لحظة الخلق. ومع أن كثيرين حاولوا محاكمته مرة باسم الدين، ومرة باسم السياسة، ومرة باسم الانتماء إلا أنه ظلّ ثابتًا على مبدئه: أن الشاعر لا يُحاكم لأنه يقول، وإنما يُحاكِم العالم لأنه لا يسمع. لقد كان أدونيس ضمير اللغة حين صمتت، وصوت الوعي حين خاف. وحين انهارت المدن العربية تحت ركام الحروب والانقسامات، ظلّ صوته يذكّرنا بأن الهزيمة ليست قدرًا، لكنها نتيجة لانقطاعنا عن الخيال، لأننا تركنا الشعراء يموتون غرباء. إن ميراث أدونيس لا يُقاس بعدد الدواوين أو الترجمات أو الجوائز، إنه يُقاس بما خلّفه في الوعي العربي من زلزالٍ لا يهدأ. لقد جعلنا نعيد النظر في مفاهيم اللغة، الدين، الهوية، المرأة، الزمن، الوطن، الثورة... حتى صرنا نكتشف أن كل ما كنا نظنه مقدسًا هو قابل للمساءلة، وأن الحرية تبدأ من إعادة تسمية الأشياء. وهنا تكمن عظمة أدونيس ومأساويته في آنٍ واحد: أنه فتح الباب، لكن القوم خافوا الدخول. هو العابر الذي يضيء الطريق ولا ينتظر من يسير خلفه، لأنه يعلم أن السير إلى الحرية رحلة فردية، وأن الشعر لا يُقرأ ليُفهم، ولكن ليُولَد في قارئه. سيظل أدونيس آخر الحراس على بوابة الروح، يحرس اللغة من التكرار، والفكر من الكسل، والإنسان من موته البطيء في اليومي. وإن كانت الأجيال القادمة ستقرأه يومًا، فلن تقرأه كشاعر فقط، بل كأحد الذين حاولوا إنقاذ العالم من سقوطه في الفراغ. سيبقى أدونيس هو الشاهد والشهيد معًا، هو الذي صرخ في وجه العدم ولم يرتدّ الصدى، هو الذي جعل من قصيدته كوكبًا يُضيء في عزلة الليل.