يشهد العالم تحولًا جذريًا فى بنية المعرفة وأنماط الاتصال الإنسانى بفعل الثورة الرقمية، حيث أعادت هذه الثورة تشكيل بنية المعرفة وطرق الإدراك وحدود التأثير، وأثّرت فى مفاهيم الهوية والتواصل والتفاعل الاجتماعى والتأثير، وبات الفضاء الافتراضى واقعًا مواز للواقع المادي، تلتقى فيه العقول وتتفاعل القيم والمواقف والمعتقدات والسلوكيات عبر تدفقات معلوماتية عابرة للحدود، ومع هذا الاتساع غير المسبوق فى الوصول إلى المعرفة، أصبح الإنسان يمتلك قوة هائلة فى الاطلاع على المعلومات وإدارتها، لكنه فى الوقت ذاته صار عرضة لاختراقات معرفية وعاطفية تهدد وعيه، وتربك منظومته القيمية، فالمحتوى الرقمى يصاغ بعناية ليكون نافذًا، مستهدفًا إعادة تشكيل القناعات، وتوجيه السلوك، وإعادة هندسة الوعى الجمعي، بعيدًا عن آليات الرقابة التقليدية التى كانت تمارسها الأسرة والمجتمع والمؤسسات التربوية. وتتجلى أهمية الأمن القيمى فى خضم هذا التحول الرقمى والاجتماعى كضرورة حضارية وركيزة استراتيجية موازية للأمن القومى وتكمن ماهيته فى قدرة المجتمع على حماية منظومته الأخلاقية والثقافية والفكرية من محاولات الاختراق الناعم أو التشويه التى تهدف إلى زعزعة ثوابته، أو تغيير أنماط تفكيره وسلوكه، أو إرباك وعيه، أو تفكيك نسيجه الاجتماعي، أو تهديد السلم المجتمعي، وهو بذلك يتجاوز المفهوم التقليدى للأمن الذى يقتصر على حماية الحدود والممتلكات، ليصبح درعًا للوعى يحمى الإنسان من الانسياق وراء النزعات المادية والفردية المفرطة، ويضمن أن تبقى القيم مرجعًا حاكمًا للسلوك الإنسانى وضبط التفاعل الاجتماعي. ويكتسب الأمن القيمى أعلى مستوى من التعقيد فى السياق الرقمي، حيث انفتح المجال على فضاءات اتصال متنوعة ومتعددة، تتدفق عبرها محتويات غير منضبطة تشكّل الرأى العام وتؤثر فى الوجدان والسلوك دون حواجز أو رقابة أو آليات ترشيد، وبالتالى لابد من التحصين للأفراد والمجتمع وترسيخ الوعى القيمى النقدى ليتحول إلى قدرة ذاتية لدى الفرد تمكنه من التمييز بين المعلومة والمعرفة، وبين القيم الأصيلة والتوجهات الوافدة الدخيلة، وبين الحرية المسؤولة والانفلات القيمي. ويقوم الأمن القيمى فى العصر الرقمى على بناء وعى نقدى قادر على قراءة الخطاب وتحليل بنيته وفهم سياقاته التاريخية والثقافية، واستكشاف ما وراءه من رموز ومقاصد، بحيث تتشكل داخل الفرد مرجعية قيمية راسخة تعمل كبوصلة داخلية توجه إدراكه، وتمنحه مناعة ضد الاستلاب أو الانقياد غير الواعي، ومن خلال هذا المستوى من الوعي، يستطيع المجتمع أن يحافظ على تماسكه وفاعليته الحضارية، فيتفاعل ويشارك فى تشكيل المستقبل دون أن يتخلى عن جذوره أو يتنصل من مقومات هويته الثقافية، بحيث يصبح الإنسان قادرًا على صناعة موقعه دون أن يفقد ملامحه أو بوصلته. ويشهد الفضاء الرقمى اليوم صورًا مركبة ومتعددة من الاختراق المعرفى الذى يمارس عبر بث معلومات مشوهة أو مضللة، وإعادة تشكيل الحقائق وتزييفها، أو ترويج وتضخيم الانحرافات الفكرية مموهة بشعارات الحرية والإبداع، وتكمن خطورته فى قدرته على التسلل التدريجى بلطف إلى بنية التفكير، حتى تصبح المفاهيم المزيفة جزءًا من الوعى الجمعي، تتداول وكأنها حقائق مستقرة، نتيجة الإقناع العاطفي، والتكرار الممنهج، والصورة الرمزية، والإبهار، والإيحاء الجمعي، بما يجعل الفرد يتبنى الأفكار دون وعى بمصادرها أو مقاصدها. ويتجلى الاختراق العاطفى فى أساليب التلاعب بالمشاعر وتوجيه الانفعالات والميول والذوق العام نحو أهداف خفية، من خلال بناء صور وقصص ومؤثرات رقمية تصور نماذج خيالية للنجاح والجمال والحب والسعادة والانتماء، تقدم بصورة براقة لكنها مغايرة لواقع الإنسان الحقيقي، ونتيجة لذلك، يقيس الفرد ذاته وفق معايير وهمية للذات وللآخر، مما يولّد بداخله شعورًا بالاغتراب الوجداني، والقلق، والنقص، ومن قم يتسع الفارق بين الواقع والقيمة والوعي، وتضعف الروابط التى تشكّل جذور الإنسان النفسية والأخلاقية، فيغترب عن ذاته ويخسر الثبات الداخلى الذى يمنحه التوازن، والقدرة على الفهم النقدي، والحضور الواعي. وعند تقاطع الاختراق المعرفى بالعاطفي، تبلغ خطورة الظاهرة ذروتها، حيث تنشأ حالات دقيقة من الانفصال عن الواقع تربك الوعى الجمعى وتضعف قدرته على التمييز بين الحقيقة والوهم، وبين القيم الراسخة والرموز الزائلة، وفى هذه المرحلة، تصبح المرجعيات الثقافية معرضة للاختطاف لصالح نماذج دخيلة تسعى إلى إعادة تشكيل الهوية من الداخل، عبر الإحلال التدريجى للقيم والمعايير التقليدية. ولقد أسهمت الثورة الرقمية فى إعادة تشكيل سلم القيم بصورة جذرية، بحيث تصدرت قيم السرعة والفردية والنفعية والاستهلاك السطحى للمعلومة، والمنافسة، والتملك، والمظهرية فى مقابل تراجع قيم التفكر والتمييز والنقد والتأمل والعمق والمشاركة والمسؤولية الجماعية، وأصبح الفرد حاليًا محاطًا بفيض متواصل من البيانات والمحفزات لا تتيح له فرصة التروى أو التحقق، مما جعله عرضة لتشتت الانتباه وضبابية الرؤية وفقدان القدرة على بناء موقف معرفى مستقر؛ وهنا تتجلى المعضلة القيمية المركزية للعصر الرقمي، حول كون الإنسان مستهلك سريع للمحتوى بدل أن يكون ذاتًا مفكرة وفاعلة ومنتجة. وفى ظل هذا المشهد العبثى والضبابي، فقد الإنسان العديد من أدواته التقليدية للتماسك الداخلي، فتراجع دور الأسرة التربوي، وضعفت المدرسة أمام هيمنة الوسائط التفاعلية، بينما أصبح الإعلام الجديد أكثر قدرة على صناعة نماذج قيمية قوية ومتجذرة، ومع غياب البوصلة الأخلاقية الواضحة أصبح الجيل الرقمى جيل يعيش حالة من السيولة الأخلاقية والقيمية، حيث لم يعد هناك ما هو ثابت أو مقدس، وكل شيء قابل للتأويل أو التبديل وفق المزاج اللحظى أو الترند العابر. ويتحقق الأمن القيمى من خلال منظومة وعى متكاملة تبدأ بالتربية الواعية، وتمتد إلى الإعلام والثقافة النقدية، وتستند إلى السياسات الثقافية الرشيدة، بوصفها آليات استراتيجية موجه لبناء عقل نقدى قادر على الفرز والتمييز وإحياء الحس القيمى وممارسة التقييم والمساءلة، ومن ثم يوجه هذا الإطار الإدراكى الفهم والتفاعل مع العالم، ويمنح المجتمع حصانة ذاتية مستدامة تحميه من موجات التشويش المتسارعة، وتضمن له تماسكه، وتحفظ له هويته وقوميته، فكلما ضعفت هذه المنظومة، ازدادت قابلية الإنسان للاختراق المعرفى والعاطفى وفقدان الثوابت القيمية التى تحميه. ونؤكد أن الجيل الرقمى الجديد يواجه تحديات غير مسبوقة فى الحفاظ على اتزانه القيمي، حيث تتقاطع الحدود بين الواقع والافتراضي، مما يجعل الهوية الذاتية فى حالة إعادة تفاوض مستمرة، وبالتالى يتحول الأمن القيمى إلى عملية نشطة وديناميكية متواصلة تتطلب إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا، ويصبح الفرد فاعلاً ومنتجًا للمعرفة، ومشارك فى تشكيل الوعى الجمعي، وقادر على فرض حضوره الواعى فى العالم الرقمي، فحيث يكون الوعي، تتأسس الحصانة القيمية المستدامة، وحيث تحفظ وتتجذر القيم يعاد وصل الإنسان بجذوره الأخلاقية والثقافية، وتبقى الإنسانية ممكنة وقادرة على العبور إلى المستقبل الآمن المستدام دون أن تفقد معناها أو عمقها الروحى والإنساني. أ.د/ مها محمد عبد القادر أستاذ أصول التربية كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر