سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
ذات يوم 30 أكتوبر 1966.. أم كلثوم فى لقاء «10800 ثانية» مع رجاء النقاش: «أساتذتى خمسة وقرأت مختارات الشعر القديم وطه حسين كاتبى المفضل وموسيقى سيد درويش عبقرية لكن كلماتها ضعيفة»
فى طريقه إلى أول لقاء له مع سيدة الغناء العربى أم كلثوم فى فيلتها بحى الزمالك، كان الكاتب والناقد رجاء النقاش يتذكر مقالا جميلا للدكتور زكى مبارك بعنون «4500 ثانية فى صحبة أم كلثوم»، وكتبه بعد لقائه بها ساعة وربع ساعة، ونشرته «مجلة الرسالة»، عدد 381، بتاريخ 21 أكتوبر 1940، ويؤكد «النقاش» أن زكى مبارك كان لا يعجبه العجب، ويمسك خنجرا عنيفا يمزق به عصره ورجال عصره، ولكن يذوب هذا الغضب حبا فى صوت أم كلثوم، ويعتبره هدية من الطبيعة لأرضنا، كأنه النيل، وكأنه الوادى الأخضر العظيم. كان «النقاش» رئيسا لتحرير مجلة «الكواكب» وامتد حواره مع أم كلثوم ثلاث ساعات أو بلغة زكى مبارك «10800 ثانية»، يوم 30 أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1966، ونشرته «الكواكب» على خمس صفحات كاملة، عدد 798، يوم 15 نوفمبر 1966، ثم ضمه «النقاش» إلى كتابه «لغز أم كلثوم». يكشف الحوار جانبا من سر عظمة أم كلثوم، ويعبر «النقاش» عن ذلك، قائلا: «إذا أردت أن تقول إنها مطربة المثقفين صدقت، وإذا أردت أن تقول أنها مطربة البسطاء صدقت، وأنت صادق إذا قلت أى شىء آخر عن هذا الصوت العظيم، فهى مطربة القرية، ومطربة المدينة، ومطربة العشاق، ومطربة «المتصوفين»، ويشير «النقاش» إلى ملاحظة مهمة قالها له وهو صغير صديق يكبره فى السن: «أنت لا تستطيع أن تتذوق صوت أم كلثوم وأنت صغير السن والتجربة، لا بد أن تكبر وتجرب وتعرف أكثر مما تعرف، فصوت أم كلثوم يحتاج إلى وجدان عرف الحياة، لا إلى وجدان طازج هش»، ويصفها حين دخلت عليه فى حجرة صالون فيلتها حيث ينتظرها، ورآها لأول مرة، قائلا: «سيدة سمراء لو رأيتها فى أى مكان من العالم لقلت هذه سيدة من مصر، إنها بنت مصر، بنت القرية». تحدثت أم كلثوم عن قضايا كثيرة فى حوارها، قالت، إن أى لحن تقدمه، يعيش معها طويلا قبل أن يسمعه أحد، وأضافت: «أحب أن أعيش مع اللحن سنة كاملة أردده وأحس بكل ما فيه، وأعرف كل شىء عنه، سنة كاملة أعايش فيها اللحن معايشة دقيقة، لا يتركنى، ولا أتركه حتى يصبح جزءا من روحى وكيانى فأقدمه حينئذ للناس، ونفس الشئ بالنسبة للكلمات، كلمات الأغنية تهمنى لأقصى حد، بل أعتبرها أساس اللحن، وأساس الأداء أيضا، الكلمات المبتذلة أو الركيكة الضعيفة التى لا توحى بأى معنى كيف يمكن للملحن أن يخرج منها بشئ، وكيف يمكن للمطرب أن يؤديها؟، لابد أن تطربنى الكلمات، وتهزنى قبل أن أقدمها للناس، وأنتظر منهم أن يتأثروا بها ويطربوا لها».
وتعطى مثلا، قائلة: «عندما يقول بيرم التونسى مثلا: «شمس الأصيل دهبت خوص النخيل يا نيل»، عندما أسمع هذه الصورة الشعرية فإننى أطرب وأتأثر، فهذا شعر، جميل، رقيق، صورة لا يستطيع أن يرسمها إلا فنان أصيل، فعندما تسقط أشعة الشمس فى الأصيل على الأوراق الخضراء، فإنها تحيلها إلى أوراق صفراء، لكن اللون الأصفر هنا رمز لقوة الحياة، وليس للذبول والإنطفاء، لأن هذا اللون هو ثمرة اللقاء بين الشمس وخوص النخيل ومياه النيل، إن الصورة الشعرية هنا هى صورة «مهرجان الحياة»، هذا هو الشعر الحقيقى الذى يمكن أن نغنيه ونلحنه، وننتظر من الناس أن يحبوه ويتأثروا به». وعن أساتذتها، قالت: «أول أستاذ لى هو القرآن، قرأته وحفظته وتعلمت منه شيئا أعتز به هو سلامة مخارج الألفاظ، فالمطرب الذى لا يعرف مخارج الألفاظ بدقة لا يستطيع أن يصل إلى قلب المستمع ولا يؤدى أداء فنيا سليما»، وتضيف: «والدى أيضا كان أستاذى، هو أول من أكتشف صوتى مبكر جدا، ثم تصرف بصورة سليمة معى، وأستاذى الشيخ أبو العلا محمد الذى تولى شبابى الفنى بالتدريب والتثقيف العميق، وأستاذى الرابع هو الشاعر أحمد رامى، فمعه قرأت الشعر العربى فى كل عصوره، كان يمدنى بكل دواوين الشعر العربى مما أعطانى فرصة لقراءة هؤلاء الشعراء، وأثناء قراءتى كنت أختار قصائد لأغنيها، وأنتقى مختارات لنفسى أسجلها لأقرأها بين الحين والآخر، وبلغت هذه المختارات حوالى ألف بيت، وقرأت مختارات الشعر القديم مثل ديوان «الحماسة» لأبى تمام، و«الأغانى للأصفهانى»، وكل هذه القرارات كان لرامى فضل كبير فيها». سألها «النقاش» عن الكاتب الذى تحبه، أجابت: «كتابات طه حسين فيها رقة الشعر وموسيقاه، وكلما قرأت كتابه «الأيام» أحسست أننى أمام شاعر حساس موهوب، طه حسين هو الكاتب الشاعر، ولذلك أفضل قراءته دائما، واعتبر أدبه قريبا إلى قلبي، وذوقى»، وأكدت، أنها تسمع الموسيقى الغربية دون أن تكون عندها مكتبة لها، وأقربها لقلبها موسيقى الروس والأسبان، وعن سيد درويش، قالت: «فنان عظيم، عبقرية موسيقية أصيلة، موسيقاه عبقرية فعلا لكنها لم تجد الشعر المناسب لها إلا فى حالات قليلة».