كثيرا ما تثار بين النقاد والمبدعين قضية إمكانية تأسيس نظرية عربية للنقد الأدبي منبثقة من إبداعنا المعاصر المتحقق بالفعل والمكتوب باعتباره استجابة لحساسية اللحظة الراهنة بكل تجلياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ولا شك أن الأدب بشكل عام ذو علاقة حيوية جدلية تتفاعل مع عصره ومجتمعه تظل في حالة من تبادل التأثير والتأثر طوال الوقت، ولاشك أن المبدعين -لاسيما الأفذاذ منهم- يملكون القدرة على التقاط تلك التفاعلات الباطنية التي تسكن في الأعماق ولا تطفو فقط فوق سطح مظاهر المجتمع والعصر. لكن المشكلة الأساسية في تلك المسألة تكمن في أن الوعي النقدي الحديث بدأ يتعامل مع الظاهرة الأدبية تعاملا علميا منهجيا منذ إسهامات دي سوسير عالم اللغة السويسري الشهير، ثم ظهور المدرسة الشكلانية الروسية ثم المدرسة البنيوية وما بعدها من اتجاهات حداثية انبثقت عن الاتجاه البنيوي وكانت توسيعا لأفكاره كما نرى في الصيغ البنيوية الحديثة كالبنيوية التوليدية لدى لوسيان جولدمان أو رد فعل لها كما نري في الممارسات التفكيكية لدى رولان بارت وجاك دريدا وفي آليات التناص لدى حوليا كريستيفا التي استلهمت إلى جانب تأملاتها في المناهج النصية الحديثة فكرة المبدأ الحواري عن باختين،وبعد ذلك حدثت تحولات جوهرية مع ظهور نظرية القراءة؛ إذ لم يعد النص مركز الثقل وقطب الرحى في الممارسات النقدية الحديثة، وتحول الأدب من سلطة النص إلى سلطة القراءة مع أفكار نظرية التلقي لدى قطبيها البارزين إيزر وياوس اللذين أصبح القارئ من خلال أفكارهما شريكا إيجابيا فاعلا في إنتاج المعنى وليس مستهلكا سلبيا للنص الأدبي، ثم ظهرت نظرية الحجاج في النقد الأدبي بعد شيوع الأفكار النظرية للنقد الثقافي باعتباره النسخة البديلة للنقد الأدبي. وتزامن تلك الاتجاهات الحديثة مع ظهور كتاب مكادونالد "موت الناقد" وكأن في موت الناقد بالمعنى المجازى بالطبع حياة للقارئ الذي لا يرى أهمية لوساطة القارئ بينه وبين استمتاعه وإفادته من العمل الأدبي وفي هذا الإطار وبعد تراجع دور الناقد الأدبي وعدم قدرته على مواكبة الإبداع الحديث بنفس قوته وتدفقه وانتشاره ظهر دور المحرر الثقافي الذي يكتب التقريرات الصحفية السريعة حول أحدث الإصدارات الأدبية دون أن يمتلك في أغلب الأحيان مقومات الناقد وصفاته وثقافته الواسعة كما كنا نرى لدى أنور المعداوي ورجاء النقاش ومحمود العالم وإبراهيم فتحي وغيرهم من النقاد الذين يعلمون بالصحافة أو يكتبون في صفحاتها بشكل دوري. لذلك فمن الطبيعي والحال كهذا أن يطرح سؤال النظرية النقدية العربية بشكل متجدد باعتباره سؤالا يسعى لاستعادة فردوس عربي حضاري مفقود، بعد أن أصبح نقدنا العربي يعاني في الأعم الأغلب من نماذجه- من التبعية الغربية على مستوى الممارسات الأكاديمية ومن السطحية المضمونية على مستوى الممارسات الصحفية. وفي هذا السياق لابد أن أشير إلى أن العلم لا جنسية له أو وطن فلل يمكن أن نتحدث عن نظرية إنجليزية في العلم أو فرنسية في الأدب وكذلك الأمر في النقد الأدبي الحديث- وقد أصبح علما ذا طبيعة نوعية وليس علما بالمفهوم التجريبي الصارم- حيث إنه من الأوفق أن نتحدث عن إسهامات عربية في تاريخ النظرية الأدبية العالمية. كما نرى مثلا لدى إدوارد سعيد الذي جمع في ممارساته النقدية الهوية العربية والنزوع العلمي المنهجى في تفكيك مفهوم الاستشراق وغيره من المفاهيم في نظريات ما بعد الاستعمار، وكذلك إيهاب حسن فيلسوف ما بعد الحداثة ومصطفى صفوان تلميذ جاك لاكان ووارث عيادته النفسية. ولعلنا نلاحظ أن هذه الأسماء قد عاشت في العالم الغربي، حيث العلوم الإنسانية الحديث والمناخ الحضاري المتقدم. بينما في مصر والوطن العربي مازلنا بحاجة إلى المزيد من الجهد والقدرة على التعامل مع طوفان النظريات والأفكار والمفاهيم والمناهج الغربية الحداثية ومابعد الحداثية بمنطق أسئلة لحظتنا الحضارية الراهنة كما كان يقول جابر عصفور. وأن نعرف أنه من شروط تأسيس نظرية عربية أن تكون إنسانية عامة وعلمية وشارحة للظواهر وقابلة للتجاوز والتحول كما كان برى صلاح فضل، وهذا ما يتوافق مع الواقع الإنساني والعالمي الحديث باعتبارنا جزءا من هذا العالم الحضاري المعقد نخضع لمنطق التراكم المعرفي، وأن أية نظرية أدبية هي نتاج منظومة فكرية وإبداعية متجانسة تخلقت على مهل في بيئات حاضنة ذات خصوصية تمكنها من التفرد والتميز.