ذات يوم سأروى حكايتى مع الأستاذ الكبير رجاء النقاش منذ أن سعدت بلقائه لأول مرة وجها لوجه على متن الطائرة المتجهة إلى العاصمة اليمنية صنعاء فى مايو من عام 1992، بدعوة من الحكومة للمشاركة فى احتفالات ذكرى مرور عامين على إعلان الوحدة بين اليمن الشمالى والجنوبى فى 22 مايو 90. كان اللقاء الأول لا ينبئ بأن علاقة إنسانية مدهشة سوف تربطنى به عقب عودتنا من اليمن السعيد فى أوائل يونيو وتستمر حتى قبيل وفاته فى 8 فبراير 2008. بحكمة الشيوخ ووقار المثقف الحقيقى استوعب حماسى واندفاعى فى توجيه الأسئلة إليه. وكيف كان يصر على اصطحابى إلى مجالس السياسيين والمثقفين من أصدقائه فى اليمن، وقدمنى إليهم وتعرفت من خلالها على رئيس وزراء اليمن الجنوبى محمد على هيثم والدكتور عبد العزيز المقالح ومستشار الرئيس اليمنى السابق على عبد الله صالح ووزير الثقافة اليمني. وبعد العودة طلبنى للعمل معه فى مكتب صحيفة "اليوم السعودية" بعد إغلاق صحيفة "مصر الفتاة" التى كنت أعمل بها. تعلمت منه الكثير وصرت له محبا وتلميذا و.."صديقا جديدا" كما أحب دائما أن يقدمنى فى المناسبات التى أحضرها معه. تفاصيل وحكايات كثيرة ومواقف إنسانية لا أنساها أبدا له. وسأبقى معترفا له بأفضاله فى تطوير أدواتى الصحفية فى القراءة وفى الكتابة والاطلاع على عوالم ثقافية وفنية وأدبية وسياسية أكثر عمقا. وإهداءه لى ما تيسر من مؤلفاته وكتاباته. ومحتفظا له بنصائحه التى أفادتنى كثيرا فى الحياة العامة وفى مشوارى الصحفى بعد ذلك. ودائما أسعد وأفرح كثيرا عندما أجد من يتذكرونه ويقدرون قيمته الإبداعية وإنجازاته الصحفية وهو الذى قدم للمشهد الثقافى العربى الطيب صالح ومحمود درويش وسميح القاسم وغيرهم وقدم للساحة الفنية عادل إمام وسعيد صالح وصلاح السعدنى عندما كان رئيسا لتحرير "الكواكب" للمرة الأولى عام 64. وتأسيسه لمجلة الدوحة الثقافية فى قطر، وأسعد أكثر عندما يتم تكريمه بصورة تليق به بعد سنوات طويلة من وفاته. وهو ما حدث يوم الأربعاء الماضى داخل مبنى ماسبيرو وفى استوديو نجيب محفوظ .. فى مفارقة مبهجة..! فقد أصدر الأستاذ رجاء كتابا مهما بعنوان "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ"، وفى رأيى هو الكتاب الأهم عن حياة صاحب نوبل الذ كان رافضا أن يكتب مذكراته حتى أقنعه رجاء النقاش وسجل معه حوالى 30 شريط كاسيت. فقد أقامت الهيئة الوطنية للإعلام برئاسة الصديق والإعلامى والمثقف النابه أحمد المسلمانى حفل استقبال بمناسبة عودة صدور كتاب ماسبيرو بعد توقف 14 عاماً بالتعاون مع مجلة الإذاعة والتليفزيون برئاسة تحرير الصديق خالد حنفى والقناة الثقافية التى ترأسها سها النقاش -ابنة شقيق رجاء النقاش- وإذاعة البرنامج الثقافى ومركز ماسبيرو للدراسات للاحتفاء بصدور كتاب طال انتظاره للكاتب والمبدع الراحل بعنوان "إسلام بلا أحزاب"، والذى ينشر لأول مرة وبحضور عائلة الكاتب الكبير رجاء النقاش. كتاب رجاء النقاش -وهو عبارة عن مجموعة مقالات نشرها فى التسعينيات- جدير بالقراءة والمناقشة فهو يدعو إلى إعلاء قيمة الحوار والعقل فى الاختلاف حول القضايا الفكرية والدينية دون تطرف فى إصدار الأحكام المتطرفة بالتكفير والإقصاء والاستبعاد، وتعزيز الوسطية وتجديد الخطاب الدينى. ويتضمن نقداً جذرياً لأطروحات التطرف الدينى، وترسيخ قيم العلم والاعتدال. يرى رجاء النقاش أن الحوار هو الحل وأن الإسلام تهدده جبهتان خطيرتان، واحدة متطرفة ترفع رايته ولكن تلحق به وبالأمة الإسلامية أشد الضرر، وثانية معادية تكيد له وتتأمر عليه ولا تريد حاضرا ولا مستقبلا لهذا الدين. ويهتم رجاء النقاش بالتركيز على أفكار الشيخ محمد عبده رائد التجديد والتنوير فى نهايات القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين، وأفكار تلميذه الشيخ عبد العزيز جاويش. ويشير إلى أن النصف الأول من القرن العشرين شهد حوارا فكريا عاقلا وراقى المستوى دون تطرف أو تهديد وترهيب باسم الدين. مثل ما حدث عندما أصدر طه حسين كتابه الشهير "فى الشعر الجاهلي"، ورد عليه المختلفون معه فى 7 كتب مما جعله يتراجع فى كتابه الجديد "الأدب الجاهلي". أمثلة كثيرة على الاستنارة والتنوير والحوار الجاد يرصده رجاء النقاش فى كتابه "إسلام بلا أحزاب" الذى يقع فى 9 فصول بعناوين جذابة ومحفزة على قراءته وإقامة حوار حوله. وما أحوجنا إلى مثل هذه الكتب هذه الأيام. التحية واجبة للهيئة الوطنية للإعلام على إصدار كتاب هو خير تقدير وتكريم لقيمة فكرية كبيرة مثل رجاء النقاش من خلال سلسلة كتاب ماسبيرو رقم 90. فالنقاش ليس غريبا عن المبنى فقد تولى رئاسة تحرير مجلة "الإذاعة والتليفزيون" عام 71، وأضفى عليها الطابع الثقافى ونشر على صفات المجلة رواية (المرايا) للأديب العالمى نجيب محفوظ فى حلقات قبل أن تصدر فى كتاب. بالتأكيد نحن سعداء بعودة صدور سلسلة كتاب الإذاعة والتليفزيون فى ثوبها الجديد "كتاب ماسبيرو"، التى أصدرت منذ عام 72 مؤلفات لكبار الكتاب من بينهم صلاح عبد الصبور وحسين فوزى وجمال الغيطانى ومحمود عوض ومحسن محمد وسامح كريم وسكينة فؤاد. وفى عام 1976 نشرت السلسلة كتاب (عودة الروح) للكاتب الكبير توفيق الحكيم. كان أول كتاب فى هذه السلسلة قد صدر عام 1972 للشاعر فاروق شوشة بعنوان (لغتنا الجميلة)، وصدر الكتاب الأخير فى يناير عام 2011 بعنوان (رياض السنباطي). حفل الاستقبال والتوقيع على الكتاب حضره عدد من الكتاب والنقاد والناشرين والدبلوماسيين ورؤساء التحرير. وكما صرح أحمد المسلمانى فسوف تعقد فى القريب العاجل ندوة لمناقشة الكتاب.