بداية صدق من قال أن "الأمة التي لا يحركها العمل، تصبح جثة على التاريخ". وهذا ما يهدد أي المنظومة تسمح بتحنيط موظفيها. نعم، اصطلاح قاس ولكنه واقع مرير، يوثر بالسلب على المجهود المبذول فيصبح هباء منثورا. عزيزي القارئ، أين مكانك؟ وكيف يكون رد فعلك حين تلقى أمامك كلمة التحنيط!!️ مما لا شك فيه ان هناك اختلاف كبير بين المفهوم الدارج للتحنيط في التاريخ من علما يمارس للحفاظ على الجسد بعد الموت، أملا في "خلود ابدي" ودخول التابوت رمزا للانتقال إلى عالم آخر. اما التحنيط الوظيفي فهو أشد قسوة، إنه تجميد الإنسان حيا داخل مكتبه، حرمانه من العمل وفرص الترقية والتطوير، وتحويل الكرسي إلى تابوت يدفن فيه طموحه وأحلامه، مكتفيا براتب آخر الشهر و"على قد شغلهم". وله أشكال عديدة كالتحنيط الذاتي حين يستسلم الموظف للروتين ويخاف من التغيير فيتحول إلى آلة بلا روح. واقسى انواعه هو التحنيط الإجباري عندما يفرض المسؤول الجمود على موظف كفء لمجرد ميوله الشخصية أو لإبراز آخر على حسابه. وهناك التحنيط بالمجاملات كمنح الترقيات والمكافآت لغير المستحقين بدافع المصلحة أو "أهل الهوى"، وكذلك التحنيط بالعقوبات الخفية كتهميش الأكفاء بسحب الملفات المهمة والفرص الذهبية، بحجج ظاهرها المصلحة وباطنها الغيرة أو الخوف. ففي بيئة العمل… من يصنع التابوت؟ للاسف أنه كأي ظاهرة له بيئة خصبة تغذيه،كرسوخ بعض المفاهيم لدي البعض كالولاء في البقاء لا في الإنجاز، شلل وظيفية قائمة على المصالح: "انفعني وأنفعك"، التي جعلت بعض المؤسسات تدار كإقطاعيات صغيرة تفتح الأبواب لبعض وتغلقها أمام آخرين. وللاسف عندما يتواجد مسؤول سلبي يترك مستقبل موظفيه في يد مجموعات النفوذ، فيزرع التفرقة بدلا من العدل، فضلا عن انتشار ثقافة الخوف من مسؤول يخشى بروز موظف اكفأ منه فيحجمه عمدا نتيجة غياب معايير التقييم، حيث تبنى قرارات الترقية والعقاب على المزاج لا الكفاءة. تسييس العمل الوظيفي، فيصبح الولاء للأشخاص لا للوطن. نعم عزيزي القارئ فنجد ان هناك العديد من النتائج الكارثية المترتبة على هذه الظاهرة واهمها البلادة وقتل الطموح والإبداع والموظف يتحول إلى منفذ صامت بلا شغف. وبالتالي هروب العقول: الكفاءات تهاجر بحثا عن بيئة عادلة، وانتشار ثقافة الصمت للنجاة والاستقرار. والامر الطبيعي انهيار أخلاقي للمؤسسات اصبح معيار البقاء للصالح الخاص وبالتالي يطفو كل ما هو مخالف للمعيار الوظيفي. عزيزي القارئ تيقن الفرق جيدا بين التحنيط والتهميش، فالاول جمود كتمثال متحرك بلا روح عمل. والثاني إقصاء متعمد لصالح "شلة تستأثر بالمكاسب". وكلاهما وجهان لعملة واحدة وإهدار للطاقات، وخسارة للمؤسسة والدولة. لا تقلق عزيزي القارئ لان الدولة المصرية هي خط الدفاع الاول والاخير لتقليص هذه الظواهر السلبية التي تعرقل الانجازات. وتذكر حين خرجنا من أزمة الإخوان كيف قام الشباب بتنظيف بلادهم لإعادة الحياة إلى طبيعتها. وتذكر قول قيادتنا السياسية "لن تقوم الدولة إلا بالعدل والانضباط، ولن تبنى الأوطان إلا بسواعد أبنائها المخلصين". وقد خطت الدولة خطوات مهمة كقانون الخدمة المدنية: الذي وضع أسسا للترقية على أساس الكفاءة والتطوير. والجهاز المركزي للتنظيم والإدارة: لحصر العمالة الزائدة وإعادة توزيعها. وظاهرة التحول الرقمي الذي يحد من سلطة الموظف الفردية ويغلق أبواب المحسوبية. والكثير من قضايا الفساد الكبرى التي ضبطت مسؤولين متورطين في استغلال النفوذ، كرسالة واضحة أن الدولة لا تتسامح مع الفساد. وثقتي وطمعي في حرص قيادتنا السياسية، لذا نناشدها بالتدخل الحاسم لوقف التحنيط الوظيفي وكسر دوائر المجاملة، حماية للكفاءات، وصونا لحقوق الأجيال القادمة، من خلال وضع آليات رقابية صارمة وحماية المشتكي حتى لا يخاف من التبليغ عن التهميش، وتجريم التهميش والتحنيط الإداري باعتباره إهدارا لحقوق الإنسان والإنسانية، وإهدارا لموارد الدولة ذاتها. هذه الفئة تسرق من مصر أعظم ما تملك: عقول أبنائها وشغف شبابها. وكلمتي الاخيرة: ان التحنيط الوظيفي والتهميش الإداري ليسا مجرد أخطاء عابرة، بل جرائم أخلاقية تهدر قيمة الإنسان وتصيب الوطن في صميمه. فالموظف "المحنط" يتحول من طاقة بناء إلى كتلة إحباط، من شريك في التنمية إلى شاهد صامت على الفساد. والوطن الذي يسمح بتحنيط أبنائه، يدفن مستقبله بيده. ورسالتي لكم أيها الشباب: لا تستسلموا للتحنيط، ولا تسمحوا للتهميش أن يسرق حياتكم. الاستقرار الحقيقي ليس الجمود، والتنقل الذكي ليس الهروب. ابحثوا عن بيئة تحترم عقولكم وتنمي قدراتكم. فمصر لن تنهض إلا بأبنائها الأحياء… لا بالمحنطين في مكاتبهم. والمسؤول الناجح هو من يكسر التابوت، لا من يصنعه.