إذا الجذورُ تهاوت ضاع ظلُّ الشجر فكيف تعلو فروعٌ لا لها مستقر؟ أؤمن أن أي مؤسسة أو دولة لا تنهض إلا حين تكسر دائرة الفانتازيا الإدارية، وتضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، لا بالشعارات ولا بالعلاقات، بل بالكفاءة والرؤية. وإلا سنظل نعيش في مسرحية عبثية، حيث تُدار الأمور على خشبة من الخيال، بينما الجمهور يدفع ثمن التذاكر من أعصابهم وأعمارهم. في حياة البشر مساحة واسعة للخيال، يهرب إليها العقل البشري كلما ضاق به الواقع. هذه "الفانتازيا" قد تكون نافعة حين تدفعنا للإبداع، وقد تكون هروبًا وهميًا حين تحجبنا عن مواجهة الحقيقة. والأخطر حين تنتقل هذه الفانتازيا من الأفراد إلى المؤسسات، فتشكل الهيكل الإداري وتتحكم في اختيار القيادات. وهنا نقول: أزفت الآزفة، وخاصة حين تقتحم الفانتازيا الفردية عقلًا بشريًا ميّالًا بطبيعته لصناعة تصورات مثالية: مدير كامل، موظف مثالي، منظومة بلا أخطاء. لكن حين نصطدم بالواقع، نجد أن تلك الصورة تتحطم أمام تناقضات المصالح وضغوط السلطة وحدود الإمكانيات. في المؤسسات نرى فانتازيا أخرى: أوراق تضع خططًا براقة لكنها لا تُنفذ على أرض الواقع. هياكل إدارية مُحكمة الشكل فارغة في الجوهر، شعارات عن العدالة والشفافية، بينما القرارات تُتخذ بناءً على العلاقات والمصالح الشخصية. عزيزي القارئ، لا تتسرع في الحكم… فالمسؤول لا يُتاح له وضع ملاك على كل مواطن يملك القرار الصائب في الوقت المناسب. لكن ماذا يفعل أمام الظواهر الكاريزمية السلبية؟ الكاريزما الزائفة تتمثل في نموذج "علي بيه مظهر". الغريب أن بعض القيادات تُمسك بمفاتيح النفوذ لهذه الكاريزما الزائفة، أشبه ما يكون إلى ما جسده الفنان القدير محمد صبحي في المسلسل والفيلم، والتي تخدع الناس بالمظهر والصوت العالي بينما المضمون فارغ. الأخطر أن هذه القيادات تجد من يتمسك بها ويبرر بقاءها، وكأن المؤسسة وقعت تحت سحر كاريزما سلبية تُزيّن الباطل في صورة الحق. فلا تَغُرَّنَّكَ المظاهرُ يومًا، فالسَّرابُ يَلوحُ ماءً زُلالًا. والنموذج الآخر هو "العصفورة" في الإدارة العصفورة السلبي: مجرد ناقل أخبار يزرع الفوضى وينقل المشاكل دون أن يشارك في أي قرار.اما الاخر العصفورة المؤثر: يتجاوز النقل ليُوجّه القرارات العليا، فيغيّر مسار أشخاص ويصنع واقعًا جديدًا مبنيًا على ما يوصله من معلومات، قد تكون صحيحة أو مضللة، وفقًا لمصلحته الشخصية. وكما وصفها أحد الشعراء:"تَطيرُ العُصْفُورَةُ بالسرِّ خِفْيَةً فتزرعُ فوضى والقرارُ سُدىً" وكعهدكم بي متابعيني الكرام فإن الحل ليس في ترقيع الواقع، بل في إعادة تأسيس الفكر الإداري المقبول، وأهمها أن تُختار القيادة بالكفاءة، وأن تُدار المؤسسة بالشفافية، وأن يُفتح الباب للنقد البنّاء والمساءلة. ومن جهة أخرى رفض استمرار عقلية "مدام ماشية خلاص"، أو الاعتماد على الكاريزمات السلبية، أو ترك القرار رهينة "عصفورة" تنقل ما تشاء وتملي على القيادات العليا ما يقررون. لكن ما بين الحلم والواقع الحقيقي شعرة تتحدد بصدق صاحبه؛ فليس هناك سواد مطلق ولا بياض مطلق. الفانتازيا في العقول ليست دائمًا سلبية؛ هي أحيانًا وقود للتغيير. لكن الخطر حين تظل المؤسسة أسيرة الخيال دون خطة عملية. وأن نعيد التوازن: بفتح الباب للخيال كأداة للإبداع، لكن بمعايير واضحة في اختيار القيادات، بعيدة عن تناقضات "المجاملات" وقريبة من "الكفاءة"، مع الرقابة الإدارية والإصلاح المؤسسي. التعافي من إدمان فانتازيا الإدارة السلبية والخروج إلى أرض الواقع لن يتم إلا بالجودة والجدية، فضلًا عن الاستعانة بالرقابة الإدارية، التي تمنح هذا التحول قوته. تنفيذًا لما أقرته القيادة السياسية، حيث شدّدت على ضرورة مكافحة الفساد بفعالية عبر اختيار الكوادر الأكفأ، مع حماية الكتلة الكبيرة من الكفاءات الصامتة من الانحراف. وكما أكدت الدولة سعيها لإصلاح مؤسسي شامل لتحقيق الانضباط المالي والحوكمة السليمة، عبر ترشيد الإنفاق وتعزيز الشفافية. وفي النهاية لن تنهض الأشجار ما لم تستند إلى جذور راسخة من القيم والشفافية. أما الأشجار بلا جذور، فمصيرها أن تسقط مهما بدا عليها من أوراق خضراء. عزيزي القارئ، لن تستطيع أن تحقق أحلامك ما لم تؤمن أولًا أنك تستحقها، وما لم تزرع جذور الثقة في داخلك.