محاسبة الاحتلال.. شعار رفعته القمة العربية الإسلامية التي انعقدت في الدوحة، ردا على العدوان الإسرائيلي على قطر، في لحظة تبدو فارقة، في تاريخ المنطقة، جراء سياسة المروق التي يتبناها الاحتلال، والتي باتت تطال الجميع، خصوما وغيرهم، والتي بدأت بالهجوم على طهران، خاصة وأنها تتزامن مع فجاجة خطابية لبنيامين نتنياهو وحكومته، تجلت في أحدث صورها في حديثه عن حلم "إسرائيل الكبرى"، وهو ما يعد تجاوزا لكافة الخطوط، التي بنيت عليها اتفاقيات السلام في المنطقة، مما يمثل تهديدا صريحا ليس فقط لأمن دولة بعينها، وإنما للحالة الأمنية الجمعية في الشرق الأوسط، وهو ما يتطلب عملا إقليميا موحدا لتعزيز الأمن الجماعي، في مواجهة حالة غير مسبوقة من الجنون والتوحش تتبناها الدولة العبرية، في مواجهة دول الجوار. تعزيز الأمن الجماعي، في واقع الأمر، يتطلب عملا مشتركا، يتجاوز المفهوم التقليدي ل"الأمن القومي"، نحو أفاق أوسع، منها ما هو سياسي ودبلوماسي، ويمتد نحو أبعاد تنموية، من شأنها تعزيز المقاومة الجماعية، والتي تقوم في الأساس على تحقيق أكبر قدر من الشراكة، وتوسيع دائرتها، لتصبح البديل الحقيقي والفعال، لسياسة المحاور التي هيمنت على الإقليم خلال عقود طويلة من الزمن، وساهمت إلى حد كبير فيما آل إليه الإقليم من أزمات، تراوحت بين الصراع البيني (في إطار التنافس بين القوى الإقليمية)، مرورا بالصراعات الأهلية، خلال العقد الماضي، جراء ما يسمى ب"الربيع العربي"، وحتى مآلات حرب غزة، وما نجم عنها من بلطجة إسرائيلية تدفع نحو حرب إقليمية قد تأكل الأخضر واليابس حال عدم احتوائها. ولعل الخطاب المصري خلال قمة الدوحة، يمثل في جوهره تشخيصا للحالة الإقليمية الراهنة، في إطار الاعتداءات الإسرائيلية المتواترة، والتي أعادت تشكيل معادلة "العداء" في منطقة الشرق الأوسط، فالهجوم الأخير على قطر، يحمل في طياته ثلاثة مسارات متوازية، أولها أن الدوحة، والتي تقع في خانة الوسيط، أصبحت في رؤية نتنياهو في نفس موقع "العدو" الإيراني، والذي طالته صواريخ الاحتلال قبل أسابيع قليلة، بينما يعكس، في مسار آخر، رغبة عارمة في استمرار الحرب الدائرة، وتوسيع نطاقها، وهو ما يعني أن حكومة تل أبيب تخلت عن خطابها السابق حول رغبتها في تحقيق السلام والاندماج الإقليمي، في حين أن المسار الثالث تجسد في أنها لم تعد تعطي أهمية كبيرة للحليف الأمريكي، في ضوء انتهاكها سيادة دولة عربية حليفة للولايات المتحدة، وما قد ينجم عنه ذلك من حرج بالغ لإدارة الرئيس دونالد ترامب، والذي مازال متمسكا بثوابت الدبلوماسية الأمريكية القائمة على دعم الاحتلال. السلوك الإسرائيلي العدائي، تجاه مختلف أطراف المعادلة الإقليمية، وضعها في خانة "العدو" لدى الجميع دون تفرقة، فلم تعد مجرد محتلا لأرض محدودة جغرافيا (فلسطين) وإنما تمارس عدوانا ممنهجا، توسع تدريجيا، من غزة إلى لبنان مرورا بسوريا وحتى اليمن وإيران، وصولا إلى قطر، وهو الأمر الذي يتطلب إعادة توصيف العلاقة مع إسرائيل، من دولة احتلال إلى "عدو" مباشر، سواء للدول التي طالتها الانتهاكات العبرية أو حتى إلى الفريق الآخر الذي لم يطاله مروق نتنياهو، في ضوء الفوضى المترتبة على سلوكه المترتبة، وما ينجم عنه من حالة عامة من عدم الاستقرار. الخطاب المصري، وإن لم يوجه مباشرة إلى الولاياتالمتحدة، كما حدث في قمة بغداد، والتي دعا فيها الرئيس السيسي نظيره الأمريكي إلى دور فعال، مستدعيا روح "كامب ديفيد"، فإنه في هذه المرة تناول بشكل مباشر التداعيات المترتبة على السلوك الإسرائيلي، وعلى رأسها ما وصفه ب"ضياع جهود الأسلاف سدى"، في إشارة إلى الجهود التاريخية لبناء السلام في المنطقة، وهو ما يمثل رسالة مباشرة لأطراف عدة، منها الشعب الإسرائيلي نفسه الذي يعاني منذ عامين ويلات الصراع، وبالطبع لحكومة تل أبيب، ناهيك عن كونه رسالة غير مباشرة لواشنطن، والتي تعد الراعي الرسمي ل"كامب ديفيد". رسالة القاهرةلواشنطن، في قمة الدوحة، مفادها أن ما صنعه جيمي كارتر، قد ينهار، حال استمرار الحماية الأمريكية للمروق الإسرائيلي، وهو ما يعني أن خطاب الرئيس ترامب حول "صناعة السلام" وتطلعه إلى جائزة نوبل، سيصبح هباء منثورا، خاصة وأن السياسات الأمريكية لم تسعى إلى تحقيق العدالة الدولية، والانتصار لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، على أساس حل الدولتين، وهو ما يعكس إما انحيازا أعمى للاحتلال، أو غياب الإدراك بمركزية القضية الفلسطينية، وما تمثله من أهمية، باعتبارها بوصلة الاستقرار والأمن الإقليميين. رسالة القاهرةلواشنطن، خلال القمة العربية الإسلامية، تحمل، من جانب آخر، مؤشرا على تراجع الثقة في قدرة الولاياتالمتحدة حول احتواء حليفها المارق، في ضوء تصريحات الرئيس ترامب وإدارته، حول عدم الرضا عن قيام تل أبيب بالهجوم على الدوحة، وهو ما يعني عجزا عن منعها، مما يثير تساؤلات حول ما إذا كان نتنياهو بات أقوى من واشنطن ونفوذها، ومستعصيا على قراراتها وأوامرها. وهنا يمكننا القول بأن ما حدث في قمة الدوحة لم يكن مجرد رد دبلوماسي على عدوان عابر، بل كان إيذانًا بلحظة تحوّل فارقة، تخرج فيها المنطقة من حالة التردد الرمزي إلى توصيف صريح للواقع، وهو أن إسرائيل لم تعد كيانًا محتلًا فحسب، بل غدت عدوا مباشرًا يهدد الاستقرار الجماعي، بينما تعيد القاهرة صياغة معادلة الردع السياسي بخطاب متزن، لكنه حاسم، تبدو واشنطن مطالبة بإعادة النظر في موقعها من معادلة يتغير فيها الحلفاء وتُعاد فيها صياغة مفاهيم الشرعية. فإما أن تتخلى عن "الرعاية العمياء" لمشروع خرج عن السيطرة، أو تواجه تحلل ما تبقى من شرعيتها الإقليمية، أمام قوى لم تعد تقبل بأن تكون رهينة لحليف متمرد على قواعد النظام الدولي ذاته