يبدو الاعتداء الإسرائيلي على الدوحة، مؤخرا، بمثابة تحول كبير في استراتيجيات إسرائيل، فمنه تسعى إلى انتهاك محرمات، تطال ليس فقط الاستقرار الإقليمي، وإنما أيضا تمتد في تداعياتها إلى تغيير الصورة التي دأب الاحتلال على تصديرها باعتباره "الحمل الذي تنهشه الذئاب".. والذئاب هنا هم جواره الإقليمي، وهي الصورة التي استقطبت به الدولة العبرية على مدار عقود طويلة من الزمن تعاطف المجتمع الدولي، وخاصة في الغرب، والذي كان بمثابة حائط الصد الأول في مواجهة أية إدانة دولية يمكن توجيهها إلى الحكومات المتواترة في تل أبيب، مهما بلغت انتهاكاتهم، والذرائع دائما حاضرة، حيث تتراوح بين الدفاع عن النفس، والحرب على الميليشيات الإرهابية، وما إلى ذلك من ذرائع. وعلى الرغم من كون الهجوم الأخير الذي طال قطر، بدا مستهدفا، قيادات حماس، وهو ما يتماهى نظريا مع الرؤية التي يتبناها بنيامين نتنياهو وحكومته، إلا أنه، في أحد مساراته، يمثل انتهاكا لأراض تابعة لدولة كاملة السيادة والاستقلال، وبالإضافة إلى كونها حليف قوي للولايات المتحدة، ناهيك عن كون الخطوة بمثابة ضربة لمحاولات الكيان نحو تطبيع العلاقات مع دول الخليج، والتي سعى إليها بدعم أمريكي كبير، بدأت إرهاصاته مع ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأولى، وهو الأمر الذي يبدو مختلفا بصورة كبيرة عن عملية استهداف إسماعيل هنية، في إيران، والتي تبقى في خانة العدو المباشر والتهديد الحقيقي، بحسب ما تروج له تل أبيب، ومن قبلها واشنطن. وفي المسار الآخر، يطرح الهجوم الأخير تساؤلا حول ما إذا كان الهجوم على قطر، يمثل خروجا عن الإطار المرسوم أمريكيا، في منطقة الشرق الأوسط، إذا ما أخذنا في الاعتبار التصريحات الصادرة عن إدارة الرئيس ترامب، والتي حملت انتقادات للخطوة الإسرائيلية، وهو ما يعد إعادة رسم خريطة النفوذ في الإقليم، لتصبح إسرائيل القوى البديلة للهيمنة الأمريكية، أم أن الانتهاك الصارخ لسيادة قطر يتماهى مع سياسات أمريكا في مناطق أخرى من العالم، وهو ما يضعها بعيدا عن خانة الإدانة الأمريكية، على الأقل، على اعتبار أن نتنياهو استلهم خطوته من وحي الرؤى "الترامبية"، وإن كانت مازالت حتى الآن لم تصل إلى انتهاك أراضي الدول الأخرى بالقوة المسلحة، حتى وإن لمحت بذلك في تصريحات متباينة، يجوز فهمها بأكثر من طريقة. خطورة الهجوم الإسرائيلي على قطر أنه بمثابة "بالون" اختبار لمنطقة الشرق الأوسط، بحيث يمكن من خلاله تقييم ردود الأفعال الصادرة من القوى الإقليمية، وعليها يمكن بناء المواقف الجديدة للدولة العبرية، والتي تجاوزت استهداف الميليشيات، المسلحة، بدعوى الحرب على الإرهاب، نحو الهراء الذي تحدث به نتنياهو قبل أسابيع، حول حلم "إسرائيل الكبرى"، ومنه انطلق نحو انتهاك سيادة دولة عربية، بينما يعيد مجددا اختبار منهج الهيمنة الأحادية ذاتية الشرعية، والتي سبق للولايات المتحدة انتهاجه عبر سياسات التعريفات الجمركية، والموقف من أوكرانيا، ناهيك عن الحديث المتواتر حول الاستحواذ على أراض خاضعة لسيادة دول أخرى، على غرار الحديث عن كندا وجزيرة جرينلاند في الدنمارك. ولعل الخطوة المتهورة التي ارتكبها نتنياهو، فتحت تساؤلات حول ماهية الدور الإسرائيلي في الشرق الأوسط في اللحظة الراهنة، فلو كانت الضربات التي استهدف إيران بمثابة حرب بالوكالة خاضتها الدولة العبرية بدعم أمريكي معلن، دفع إلى تدخل مباشر من قبل واشنطن في مرحلة لاحقة، فالهجوم على قطر يمثل استهدافا صريحا لحلفاء أمريكا، وهو ما يضع البيت الأبيض في حرج بالغ، بخصوص قدرته على احتواء اليمين الحاكم في تل أبيب، أو فيما يتعلق بحماية مناطق وجود قواعده العسكرية، والتي قد تستباح في عدة أماكن حول العالم، سواء من الخصوم أو الحلفاء، خاصة وأن قطر نفسها كانت هدفا إيرانيا قبل أسابيع، وإن كان الهدف في تلك المرة هو القواعد الأمريكية نفسها، في إطار الرد على التدخل الأمريكي على خط المواجهة بينها وبين إسرائيل. السياسات الأمريكية، سواء دوليا، عبر سياسات أحادية لا تستلهم شرعيتها من دعم الحلفاء، أو إقليميا في الشرق الأوسط، عبر تفويض تل أبيب في الهجوم على إيران، ثم التدخل لحسم المعركة، أو على الأقل لحفظ ماء وجه نتنياهو، فتح الباب أمام جرأة عبرية للتحول من مجرد وكيل إقليمي لأمريكا بالشرق الأوسط، نحو دور آخر، يعتمد على تقديم نفسها ك"مركز للنظام الإقليمي"، على حساب واشنطن نفسها. والواقع أن الولاياتالمتحدة، سواء كان انتقادها لتل أبيب حقيقيا أو ظاهريا، تبقى هي الخاسر الأكبر من حيث التأثير والنفوذ، ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط، وإنما في العالم بأسره، فالرسالة التي قدمها نتنياهو للعالم مفادها أنه لا يوجد من يمكنه أن يسيطر عليه حتى وإن كانت واشنطن نفسها، بينما يقدم سابقة في إمكانية استباحة القوات الأمريكية أينما وجدت، من قبل الخصوم أو الحلفاء على حد سواء، وهو الأمر الذي يمثل انتهاكا صريحا لمكانة أمريكا ويضعها في صورة المهيمن العجوز الذي لم يعد قادرا على احتواء أصدقائه، فكم من الممكن أن يفعل به خصومه. وهنا يمكننا القول بأنه لا يمكن النظر إلى الضربة الإسرائيلية على الدوحة باعتبارها حادثًا عرضيًا أو فعلا معزولا، بل يتعين قراءتها كجزء من استراتيجية متكاملة تسعى من خلالها تل أبيب إلى إعادة تعريف موقعها في النظام الإقليمي، ليس فقط كوكيل للقوة الأمريكية، بل كفاعل مركزي يسعى لتصدير نفوذه خارج حدود الجغرافيا الفلسطينية، حتى وإن كان ذلك بدون وجود "ضوء أخضر" أمريكي، وفي المقابل، فإن التراخي أو التواطؤ، سواء بالصمت أو بردود أفعال فاترة، من قبل واشنطن، لا يؤدي فقط إلى تقويض مكانتها كضامن للأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، وإنما يضرب عمق مشروعها العالمي في قيادتها للنظام الدولي، خاصة إذا ما بات الحلفاء الأقرب عُرضة للاختراق والاعتداء دون مساءلة