خطوة أمريكية تبدو متوقعة، بالهجوم على المنشآت النووية الإيرانية، في لحظة زخم، جراء الضربات المتبادلة بين طهران وتل أبيب، بالإضافة إلى عدم تحقيق اختراق واضح، فيما يتعلق بالمفاوضات التي سبقت تلك المستجدات، لتضع واشنطن نفسها على محك المواجهة المباشرة، وهو الأمر الذي يطرح تساؤلات حول أبعاد هذا الدور ونطاقه، في ضوء موقف الرئيس دونالد ترامب، والقائم في الأساس على فكرة عدم الانغماس في مستنقع الحروب مجددا، وهو ما يستبعد فكرة تكرار تجربة العراق، والتي طالما هاجمها خلال حملته الانتخابية، أو خلال ولايته الأولى، بالإضافة إلى التكاليف الاقتصادية الباهظة جراء الدخول في حرب مباشرة، وهو ما يمثل كذلك خطا أحمر للإدارة الحالية، ناهيك عن تقويض كافة الرؤى التي طرحتها واشنطن حول "صناعة السلام" في العالم، والتي كانت بمثابة الشعار الرئيسي لحملة الرئيس خلال انتخابات 2024. معضلة واشنطن، فيما يتعلق بالموقف من إيران، إذا ما قورنت بحروبها السابقة، سواء في العراق أو غيرها، لا تقتصر على مجرد التعارض مع الخطاب "السلمي" للرئيس، والذي اقتحم به عقول وقلوب أنصاره، الذين اختاروه باعتباره رمزا ثوريا على التقليدية الأمريكية، فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، خاصة في مسألة التورط في الصراعات العسكرية، وإنما تتجلى في افتقاد الإدارة الأمريكية لأحد أهم العناصر التي سبق وأن عززت مواقفها، في الحروب السابقة، وهو الدعم الغربي، والذي تجلى في حالة العراق، في مشاركة قوات بريطانية وفرنسية، ولو بصورة رمزية، بالإضافة إلى الدعم السياسي من دول المعسكر الغربي، وهو ما ساهم في تخفيف حدة الإدانة للسلوك الأمريكي، والذي جاء على عكس قرار مجلس الأمن، حيث استبدلت واشنطن الشرعية الأممية، بما أسميته في مقال سابق ب"شرعية التحالفات". الوضع في إيران يبدو مختلفا، فالتحرك الأمريكي منفردا (في إطار الغرب)، بينما تبقى العلاقة بين واشنطن وأوروبا مرتبكة، على خلفيات متعددة، منها ما هو اقتصادي، جراء العودة إلى سياسة التعريفات الجمركية من قبل الرئيس ترامب، وكذلك موقفه من أوكرانيا، والذي يمثل انقلابا على ثوابت الدبلوماسية الأمريكية، بالإضافة إلى رؤية الرجل القائمة في الأساس على تجاهل الحلفاء، في إطار محاولته تحويل وجهة القيادة الدولية، من الهيمنة الغربية بقيادة أمريكية، إلى هيمنة أحادية ذاتية الشرعية، وهو ما بدا قبل ذلك، في ولاية ترامب الأولي (2017 – 2021)، عندما ألغى الاتفاق النووي الذي أبرمته إدارة أوباما في 2015، بالمشاركة مع 5 دول أخرى، وهي فرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا والصين، وسعيه نحو اتفاق ثنائي، وهو المسعى الذي حاول تحقيقه قبيل المستجدات الأخيرة، بينما تبقى الهجمات الأخيرة محاولة أخرى للضغط على النظام الإيراني لإجباره على الرضوخ. المشهد الراهن، في صورته الحالية، يمثل في جوهره، غيابا تاما للشرعية، سواء في الداخل الأمريكي، والذي لا يبدو متوافقا مع قرار الانغماس في الحرب، حال مواصلتها، حيث يلاحقه كابوس تكرار المشهد في العراق، وما تبعه من خسائر اقتصادية، في لحظة صعبة، جراء التضخم، والبطالة، أو فيما يتعلق بغياب الغطاء الدولي، وبالطبع الأممي، وهو ما يبدو في ارتباك الحلفاء، والذي يمثل امتدادا صريحا للموقف من إسرائيل وعدوانها على غزة، والذي دفع العديد من القوى الأوروبية نحو اتخاذ خطوات منفردة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وإدانة ما يرتكب من انتهاكات وإبادة في غزة، وهو ما لا يتوافق مع الهوى السياسي في الولاياتالمتحدة، خاصة تحت مظلة الإدارة الحالية. الضربة الأمريكيةلإيران، ومن قبلها الإسرائيلية، لا تخرج بكل تأكيد عن مسار المشهد الإقليمي برمته، منذ العدوان على غزة، وتمثل امتدادا طبيعيا لتدمير ما اعتادوا على تسميته ب"محور الشر"، خاصة بعد الخسائر الكبيرة التي لاحقت الميليشيات، سواء الفصائل في فلسطين، أو حزب الله في لبنان، وهو ما يمثل صياغة عملية لما سبق وأن تحدث عنه بنيامين نتنياهو، حول رسم صورة جديدة للشرق الأوسط، ولكن ما يتغافل عنه ترامب وحليفه الإسرائيلي، أن الخريطة الجديدة لا تقتصر على الشرق الأوسط، وإنما تمتد إلى الخريطة الدولية نفسها، في ظل معطيات جديدة، أبرزها عجز إسرائيل عن القضاء التام على عدة ميليشيات، رغم الفوارق الكبيرة في الإمكانات، وطول الفترة الزمنية للحرب، والتي تقترب من العامين، بينما لم تعد واشنطن هي البوصلة التي يدور حولها العالم، وخاصة في الغرب الأوروبي، في ظل ارتباك العلاقة. الخريطة الجديدة، ربما لا تحقق أهداف واشنطن وتل أبيب، في ضوء قراءة المشهد الدولي الراهن، فأمريكا لا يمكنها أن تكون القطب الأوحد، إذا ما خسرت حلفائها بالكامل، بينما الحليف إسرائيل لا يمكنه أن يكون قيادة إقليمية وحيدة، في المنطقة، حتى في حال سقوط طهران، لأن أمنها سيصبح تحت تهديد أكبر، تكون خطورته في غياب البعد النظامي عنه، وهو ما بدا في أحداث السابع من أكتوبر، والتي وضعت مؤسسات تل أبيب تحت مجهر الإدانة، جراء حالة تقصير في التنبؤ بالأحداث، وعجز عن التعامل الفوري، وهو ما كشفته التحقيقات بعد ذلك، مما يعكس حقيقة أن الدولة العبرية ليست مؤهلة لقيادة إقليم بحجم الشرق الأوسط، حتى في وجود دعم أمريكا، خاصة مع فقدان الأخيرة للمساندة المعتادة من حلفائها، ناهيك عن الأوضاع الداخلية في إسرائيل نفسها، وحالة انعدام الثقة في قدرتها على إدارة معاركها وصراعاتها، وهو ما يخصم الكثير من رصيدها القيادي. وهنا يمكننا القول بأن أزمة واشنطن وتل أبيب، ليست في الانتصار اللحظي على إيران، وإنما في واقع الأمر هي أزمة شرعية، فكلاهما بات يفتقد الدعم الدولي، والثقة الداخلية، لتحقيق القيادة التي يتوقان إليها، سواء على النطاق الدولي أو الإقليمي، وهو ما يعكس الطبقة الأهم من الأزمة، والتي لا يمكن تلخيصها في حزمة من الميليشيات المسلحة، أو حتى في الصراع مع طهران، وإنما تمتد إلى طبقات أعمق، سواء فيما يتعلق بإدارة المؤسسات في الداخل، في ظل الانقسام الواضح، داخل أروقتها، أو بنية النظام الدولي نفسها، والتي تمر بمرحلة مخاض، قد تتغير على أساسه، ليس مجرد هوية القيادة العالمية ولكن أيضا المفاهيم المرتبطة بها.