هناك أيام تبقى محفورة في القلب، لا يمحوها الزمن ولا تهونها السنين. من بين كل أيامي، يظل يوم رحيل أمي عام 2015 هو الأشد سواداً، اليوم الذي انطفأ فيه كل ضوء، وصار العمر بعده ناقصاً، بلا طعم ولا رائحة. قبل رحيلها، كانت رحلتي من القاهرة إلى بلدتي الصغيرة التابعة لمحافظة الدقهلية رحلة شاقة في ظاهرها، لكنها بالنسبة لي كانت سفر شوق. كلما اقتربت عجلات الميكروباص من حدود البلدة، كنت أشعر أن أنفاسي تتغير… كنت أفتح الشباك وأمد وجهي إلى الهواء، لأستنشق عبيراً خاصاً، عطرًا لا يشبه أي عطر في الدنيا: ريحة أمي. كنت أشمها في التراب، في الحقول، في الطرقات، في كل حجر وشجرة. كانت البلدة تفوح بوجودها، وكأنها تستعد لاحتضاني قبل أن أصل إلى حضنها الدافئ. لم تكن أمي مجرد أم. كانت الوطن الذي أعود إليه، وكانت الوجه الذي يبدد عني تعب الصحافة وضوضاء القاهرة، وكانت المرفأ الذي لا يخون، مهما قست الحياة. أحببتها حباً لا يكتب ولا يفسر، حباً يجعل قلبي صغيراً أمام عظمتها. لكن الموت لا يعرف الحب. جاءني الخبر في القاهرة: "أمك ماتت". لم أسمع بعدها شيئاً. شعرت أن الدنيا كلها توقفت، أن السماء سقطت على صدري. أسرعت مع زوجتي وأطفالي، أركض لألحق بها، علّني أرى عينيها آخر مرة. وحين وصلت، وجدتها ممددة كطفلة نائمة، لكن النوم هذه المرة بلا صحوة. نظرت إليها النظرة الأخيرة… لمست وجهها البارد… وودعتها. مضت الجنازة، انتهت المراسم، لكن قلبي لم ينتهِ. رجعت إلى القاهرة بجسد ثقيل وروح مثقوبة. ومنذ ذلك الحين، صار السفر إلى بلدتي محنة. لم تعد الطرق تفوح بريحتها، لم يعد الهواء يحتضنني كما كان. صرت أذهب فقط للضرورة، وكأنني أهرب من مواجهة الحقيقة… الحقيقة أن أمي لم تعد هناك، وأن البلدة صارت غريبة بعد رحيلها. اليوم، وبعد مرور سنوات، لم يهدأ حزني. لم أنسَ، ولن أنسى. ما زلت أفتقدها في كل لحظة، وأبحث عن ريحتها في الهواء عبثاً. رحيل أمي لم يكن موتاً لها وحدها، بل كان موتاً لجزء مني ما زال مدفوناً معها. كل شيء تغير بعد غيابها: البيت، البلدة، حتى الطريق الذي كان يزهر كلما اقتربت منه… صار طريقاً باهتاً، موحشاً، بلا رائحة ولا حياة. أمي كانت سر الحنين، فلما رحلت… مات الحنين معها.